قرار إقالة غالانت.. أعمق من مجرد أزمة ثقة
من الضروري البحث في الأسباب الحقيقية التي دفعت نتنياهو إلى الإقدام على هذه الخطوة مع علمه المسبق بما يمكن أن تخلفه من فوضى في الشارع الإسرائيلي، وكذلك في العلاقة بين المستويين السياسي والأمني في الكيان.
لا يمكن اعتبار المطالعة التي قدمها رئيس حكومة الكيان بشأن قرار إقالته وزير حربه يوآف غالانت وتعيين يسرائيل كاتز بديلاً له، والتي اختزلها بانعدام الثقة بينهما كافية لتبرير هذه الخطوة في لحظة يعدّها الداخل الإسرائيلي بالغة الخطورة، إذ تتقاطع التحديات التي يواجهها الكيان الإسرائيلي انطلاقاً من الانقسام العمودي في بيئته المجتمعية مروراً بالمقاومة الصلبة التي يواجهها على جبهتي لبنان وغزة وجبهات الإسناد العراقية واليمنية والمواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية، وصولاً إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستؤثر حتماً في كيفية إدارة العلاقات الثنائية بينهما، وذلك بغض النظر عن الشخصية التي ستدخل إلى البيت الأبيض.
فإذا كان الإعلام الإسرائيلي قد صنف هذا القرار ضمن إطار خيار سياسي داخلي يستهدف محافظة نتنياهو على بقائه في السلطة، فإن هذا التقدير سيبدو قاصراً عن محاولة فهم الأبعاد الحقيقية لهذا القرار، إذ تخطى نتنياهو في الفترة الأخيرة خطر إقالته نتيجة تمكنه من اغتيال قيادات حزب الله وحركة حماس، بالإضافة إلى نجاحه في تسويق تمكنه من تدمير منظومة حزب الله الصاروخية في الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن فشل المعارضة الصهيونية في أن تظهر تماسكاً حقيقياً في مواجهته.
وعليه، يصبح من الضروري البحث في الأسباب الحقيقية التي قد تدفع نتنياهو إلى الإقدام على هذه الخطوة مع علمه المسبق بما يمكن أن تخلفه من فوضى في الشارع الإسرائيلي، وكذلك في العلاقة بين المستويين السياسي والأمني في الكيان.
في هذا الإطار، يفترض الإشارة أولاً إلى تمسك نتنياهو بالائتلاف الحكومي الذي يقوم أساساً على تحالفه مع حزب البيت اليهودي وحزب القوة اليهودية، إذ يمكن بسهولة ملاحظة لمسات سموتريش وبن غفير على قرارات الحكومة وتوجهاتها. وإذا قاطعنا ذلك مع تولي جدعون ساعر، رئيس حزب اليمين الوطني، وزارة الخارجية سيظهر واضحاً تمكن نتنياهو من ضمان استقرار حكومته وتوجهه لتكريس حكومة من اليمين المتطرف المنسجم في ما يخص قرار عدم تجنيد الحريديم والمتوافق حول توجه نتنياهو الحالي في استكمال عدوانه وحربه، رغم اختلاف الدوافع والأهداف.
حتى اللحظة، يبدو الوزير المقال يوآف غالانت ملتزماً بسلوك منضبط، إذ تمسك في بيانه بإظهار التزامه بهدف المحافظة على "إسرائيل" قوية، وأوضح أن أولويته طوال 50 عاماً من حياته كانت "إسرائيل وجيش الدفاع". وإذا كان قد لخص أسباب إقالته بخلافه مع نتنياهو حول ثلاث قضايا، أي تجنيد الحريديم وإعادة الأسرى وضرورة التحقيق في أسباب الفشل الذي أدى إلى نجاح "طوفان الأقصى"، فإن الواقع الإسرائيلي بتعقيداته يظهر أسباباً أخرى أكثر بنيوية.
فالمعروف أن نتنياهو قد أظهر منذ دخوله إلى الحياة السياسية وتقلده منصب رئيس الحكومة جنوحاً نحو إعادة صياغة العقد الاجتماعي في الكيان وفق رؤية يهودية متطرفة تفترض مركزيةً صهيونيةً متطرفة في الداخل، وممارسة قوة خشنة مع أعدائه في الخارج. وبالتالي، ظنّ نتنياهو أن "طوفان الأقصى" سيؤمن له الظروف المثالية لإحداث انقلاب معياري في الداخل، وسيساعد في تحقيق حلم "إسرائيل" الكبرى المتحررة من تنازلات بن غوريون والقادرة على فرض نفوذها ومتطلباتها الأمنية في الإقليم.
فإذا كان نتنياهو يمثل خيار عدم الاعتراف بحل الدولتين وتكريس يهودية "الدولة"، بالإضافة إلى تبني دبلوماسية القتل والتدمير كخيار أساسي في سياساته الخارجية، فإن ما رشح عنه في الفترة الأخيرة يدلل على سعيه للظهور بمظهر القائد الساعي إلى تحقيق ولادة جديدة للكيان الإسرائيلي، وذلك وفق رؤية تخون كل مسار يصالح فكرة الاعتراف بوجود شعب فلسطيني يملك الحق في بناء دولة على أرض فلسطين المحتلة. بالطبع، يفترض أن لا يُفهم من هذا الكلام تقبُل يوآف غالانت ومن يمثله لفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
فالفارق بين الاتجاهين يتمحور حول إصرار التيار الوسطي الإسرائيلي على مراعاة الظروف الإقليمية والدولية، التي تتبنى بالعموم هذا التوجه ومحاولة التعاطي معها بشيء من الإيجابية الشكلية على الأقل، إذ قد ينعكس ذلك بشكل جوهري على موقع الكيان الدولي.
وعليه، يمكن التقدير أن الخلاف بين الشخصين لا يمكن اختصاره في مجرد فقدان التوافق داخل الحكومة في زمن الحرب، إذ إن بذور الخلاف تدلل على اختلاف منهجي في التفكير بين توجهين يمثل كل منهما صورة مفترضة لكيان يستهدف الهيمنة والسيطرة وضمان استمرار البقاء حسب توجه يناسبه.
وإذا كان من الممكن الحديث عن أن ما يميز خطوة نتنياهو اليوم هو اختياره للحظة الإقالة، إذ إنها أتت بعد وقت قصير من إثارة قضية تسريب موظفين في مكتبه وثائق سرية وإصدار غالانت 7000 أمر تجنيد للحريديم، بالإضافة إلى تزامنها مع سير عملية انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة، فإن ذلك يؤشر من حيث المبدأ إلى محاولة نتنياهو استغلال هذه المحطات من أجل تلافي رد فعل أميركي من جهة، ومن أجل تقديم قراره في إطار من التجاذبات التكتيكية التي من الممكن أن تُظهر على أنها مجرد تعديل حكومي فرضته ظروف آنية من جهة أخرى.
في هذا الإطار، لن يكون من المستغرب تصنيف التظاهرات التي خرجت للاعتراض على قرار إقالة غالانت ضمن الأهداف التي سعى إليها بنيامين نتنياهو من خلال قراره.
فمن خلال تعريض الأمن الإسرائيلي لخطر التصادم في الشارع، ستجد المؤسسة الأمنية نفسها ملزمة بابتلاع قرار إقالة غالانت خشية تحول المواجهات التي تحدث بين المتظاهرين والشرطة إلى مواجهة بين معارض لقرار الإقالة ومؤيد يميني متطرف له، مع الإشارة إلى أن الواقع المعارض لنتنياهو في الكيان لا يظهر تماسكاً حقيقياً ويمكن، استناداً إلى تجربة الإضراب العام الفاشل الذي دعت إليه المعارضة في أيلول/سبتمبر الماضي، أن يشكل منطلقاً قوياً يرتكز عليه نتنياهو من أجل إظهار قوته وشعبية قراراته في المرحلة المقبلة.
فإذا كان من الممكن أن يصوّب الإعلام الإسرائيلي أو المعارضة الإسرائيلية على هذا القرار لناحية أنه يخدم التوجهات الشخصية لرئيس الحكومة، فإن ذلك يجب أن لا يلغي حقيقة خدمته أيضاً لتوجهات نتنياهو العقائدية المتقاطعة مع اليمين المتطرف الساعي لتغيير تركيبة الكيان من ناحية الاجتماع السياسي. فمن خلال إحكام قبضة حكومة اليمين المتطرف على المفاصل الأمنية والعسكرية في الكيان بعد إطباقها على آليات اتخاذ القرار السياسي في "الدولة" من خلال الائتلاف الحكومي الحالي، سيصبح من السهل إدارة التوجه المجتمعي في الكيان وفق قواعد عقد اجتماعي جديد.
وعليه، يمكن التقدير أنه في حال رضخت المعارضة لاعتبار عدم التفريط بالأمن، وفضّلت ابتلاع القرار والتسليم بإطباق نتنياهو وائتلافه على السلطة خشية انفلات المواجهة في الشارع، سيتحوّل الاستحقاق الانتخابي المقبل للكنيست عام 2026 إلى مجرد استحقاق يجدد من خلاله اليمين المتطرف شرعيته ويكرس بنيامين نتنياهو في مقام أعلى من المؤسسين الأوائل للكيان.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً