نشاط روسيا والصين في الشرق الأوسط.. صدى يتخطى حدود المكان
عام 1904، عرض ماكيندر ورقته المشهورة "المحور الجغرافي للتاريخ"، في اجتماع الجمعية الجغرافية الملكية في لندن. ومن خلال تحليله العلاقة المتبادلة بين الجغرافيا والسياسة، قدم أفكاراً شكَّلت إطاراً نظرياً لعلماء السياسة والجغرافيا والاقتصاد، بحيث لا يمكن لأي مشروع دولتي جيوبوليتيكي أن يظهر متحرراً من هذه الأفكار.
في تلك الورقة، قدم ماكيندر نظريته عن الفضاء المقفل، واعتقد أن الحقبة الكولومبية انتهت في بدايات القرن العشرين، وقال: "تمت حدود خريطة العالم في 400 سنة بدقة تقريبية"، ثم أضاف أنه سيكون علينا من الآن وصاعداً أن نتناول النظام السياسي المقفل، وأنه سيكون أحد المجالات العالمية؛ فكل انفجار في القوى الاجتماعية، بدلاً من أن يذوب في دائرة الفضاء غير المعروف المحيط به، وفي فوضى البربرية، سيرتد بحدة من الجانب البعيد للكرة الأرضية.
وبعدما قدم لهذه النظرية الكثير من الجهد والتحليل، وعمل على إثبات صحتها، مستنداً إلى أحداث التاريخ والجغرافيا ونتائج الحروب المتتالية التي عصفت بالقارة الأوروبية، جاء الصراع السوفياتي الأميركي في شرق أوروبا ليؤكد أنه انعكاس لهذه الأفكار، إذ إنَّ حلف شمال الأطلسي لم يكن محاولة لمنع تمدد الاتحاد السوفياتي نحو غرب القارة فحسب، إنما كان أيضاً محاولة لاحتواء الاتحاد السوفياتي الذي كان يهدف نظرياً إلى إرساء أحادية أفكاره عالمياً.
في المقابل، فإنَّ الإعلان عن انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار المحور الغربي لم يكن يهدف إلى إظهار صورة الانتصار على دولة نووية، إذ إنَّ ذلك كان مستحيلاً في ظل نظرية توازن الرعب النووي، إنما كان يستهدف الإعلان عن حقبة تاريخية جديدة عنوانها نهاية التاريخ واستحالة ظهور منظومة فكرية جديدة قادرة على منافسة المنظومة الليبرالية.
في إطار آخر، إذا كان الصراع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية قد انطلق من القارة الأوروبية، حيث التماس المباشر بين القوتين الأميركية والسوفياتية، فإن ذلك الصراع لم يستثنِ منطقة الشرق الأوسط؛ فقد كانت تلك المنطقة بمنزلة ساحة اختبار أساسية للمواجهة بين الطرفين، انطلاقاً من الصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى التسابق على بسط النفوذ وتعميق العلاقات مع دول المنطقة.
وبناء عليه، لم تكن السياسات الأميركية في هذه المنطقة بعيدةً عن انعكاسات انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ عمدت الولايات المتحدة الأميركية إلى تأكيد نفوذها من خلال التحكم في مسارات التسوية مع الكيان الإسرائيلي أو من خلال معاقبة كل مخالف لاتجاهاتها السياسية، مثلما حدث مع العراق.
لم يهمل ماكيندر أهمية منطقة الشرق الأوسط في تحليله، غير أنه اكتفى بتصنيفها ضمن إطار مسمى الهلال الداخلي، مسقطاً عنها الأهمية التي أعطاها لقلب العالم. وفي هذا الإطار، يمكن القول إنَّه أخطأ في تقديره لهذه المنطقة، إذ إنَّ الواقع العملي منذ عام 1945 شهد تعاطياً دولياً يوازي في تقديره أهمية هذه المنطقة ذلك الذي أولاه لمنطقة قلب العالم، بل إن ما أظهرته الوقائع يؤكد أن أهمية الشرق الأوسط تخطت في فترات متعددة الأهمية التي أولتها الثنائية القطبية لقلب العالم، إذ ساهم الإلحاح الأوروبي في تكريس نوع من هدنة غير معلنة في تلك المنطقة.
لأسباب عديدة، لم تلتزم الولايات المتحدة الأميركية طويلاً بإستراتيجيتها التي صنفت الشرق الأوسط ضمن المناطق الحيوية التي تفترض حضوراً حيوياً وفاعلاً، إذ عمدت الإدارات الأميركية المتلاحقة منذ عهد باراك أوباما إلى التوجه نحو بحر الصين وتوسيع حلف شمال الأطلسي وتمدده نحو الشرق، انطلاقاً من تقديرها أن الصين التي تعتبر المنافس الأول لموقع الولايات المتحدة الأميركية نجحت في التحرر من التبعية لمصادر الطاقة في الشرق الأوسط، في حين أن روسيا من الدول المصدرة التي لا تعنيها كثيراً هيمنة الولايات المتحدة على الدول المنتجة في تلك المنطقة.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد برّرت وجودها في الشرق الأوسط استناداً إلى اعتباره المصدر الأول للنفط والغاز اللذين يشكلان حاجة حيوية للصين، فإنَّ هاتين المادتين الإستراتيجيتين خسرتا من قيمتهما نتيجة تنويع المصادر الذي عملت عليه الصين، وكذلك نتيجة تقليل الاعتماد عليهما وتطوير آليات إنتاج الطاقة البديلة. أما لناحية روسيا، فإنَّ المسار الذي اعتمدته تحت مُسمى الجوار القريب أوحى باكتفائها بمجال حيوي محدود.
انشغلت الولايات المتحدة الأميركية بكيفية الحفاظ على النظام العالمي الأحادي عبر التركيز على كيفية محاصرة الصين وروسيا من خلال سياسة الأحلاف؛ فالتمدد الأطلسي نحو شرق القارة الأوروبية ترافق مع جهد أميركي في شرق آسيا من خلالAUKUS و QUADوعدد غير محدود من الاتفاقيات الثنائية مع اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها.
وإذا كانت الدولة الروسية قد ركزت في رد فعلها المباشر على السلوك الأميركي على القوة والتحالفات العسكرية من أجل تحقيق توازن في القوة، كما ظهر من خلال حربها في أوكرانيا وتحالفاتها مع سوريا والجمهورية الإسلامية، فإن ذلك لا يلغي أن كلا الدولتين، الروسية والصينية، سلكتا مسار البحث عن كيفية تغيير قواعد النظام الدولي الأحادي الذي دأبت الولايات المتحدة الأميركية على المحافظة عليه، خصوصاً من خلال وجودها في الشرق والأوسط.
بالطبع، لا يمكن تفسير السلوك الروسي والصيني الذي يهدف إلى ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط إلا لأسباب ترتبط بالنظام الدولي؛ فمن خلال الدور الصيني النشط وغير التقليدي في معالجة قضايا المنطقة، مثل التوسط بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية أو الدور الروسي الذي يعمل على تحقيق تسوية تعيد العلاقات بين تركيا وسوريا، ومن خلالها بين سوريا وأكثر دول المنطقة، يمكن ملاحظة بوادر مشروع صيني روسي يهدف إلى تكريس أسس جديدة للعلاقات الدولية في الشرق الأوسط، مختلفة من حيث شكلها ومضمونها عما دأبت الولايات المتحدة على تكريسه.
سياسة التحالفات والأقطاب والتوازنات التي حرصت الولايات المتحدة على تثبيتها، بحيث تحافظ على موقعها الأحادي من خلال عسكرة المنطقة وربط أمن دولها السياسي وقرارها بالمصالح الإستراتيجية الأميركية، تم العمل على استبدالها بمسعى صيني روسي يهدف إلى دفع المنطقة إلى التكامل وتسوية خلافاتها بالطرق السلمية؛ فالنظام العالمي الذي تهدف الصين إلى إرساء قواعده يُوافق بين القرار السيادي للدول والمصالح الاقتصادية ضمن إطار سياسة الاعتماد المتبادل والمنفعة المشتركة.
وبناء عليه، قد تبدو واضحة محاولات الصين وروسيا لملء الفراغ الذي شكَّله انكفاء الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، لكن هذه المحاولات ليست عرضية، ولا يمكن تصنيفها في إطار رد الفعل التلقائي، فالمسارات المتوازية التي تعتمدها كلا الدولتين في شرق أوروبا والشرق الأوسط لا تؤكّد أنّ الولايات المتحدة باتت تواجه محاولات جدية وحقيقية لتغيير التوازنات الدولية القائمة، ومن خلفها أسس النظام الدولي الحالي فحسب، إنما تظهر أيضاً السياق الّذي أرساه ماكيندر عن كون الارتدادات التي يخلفها أي انفجار لن تبقى أسيرة الدائرة المحيطة بها، فالانكفاء الأميركي عن الشرق الأوسط ونجاح الصين وروسيا في ملئه لن ينعكس صداه على الجوار القريب فقط، إنما سيرتد عبر أقاصي المعمورة أيضاً، ومن شمالها إلى جنوبها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.