اتفاق التعاون الاستراتيجي الروسي الإيراني.. خطوة لتكريس نظام متعدّد الأقطاب.
لم تكن خلاصة اللقاءات التي جمعت وزير الخارجية الإيراني بنظيره الروسي في موسكو عادية لناحية التشديد على تطوير العلاقات الثنائية أو التحضير لقمة رئاسية تجمع قادة البلدين فقط، إنما تخطّت أيضاً حدود الأثر الثنائي، لتعكس تعاوناً في الملفات والقضايا الإقليمية المرتبطة بعملية إعادة هيكلة التوازنات الدولية، بما يضمن بقاء المجال الحيويّ لدول المنطقة خارج النفوذ الأميركي.
إنّ طبيعة الملفّات التي طرحت على طاولة البحث تؤسّس لما يمكن اعتباره خطة عمل متكاملة هدفها توسيع المدى أو المجال الحيويّ لمحور الشرق المرتكز على العلاقات الاستراتيجية التي تربط روسيا بالجمهورية الإسلامية والصّين.
وحيث إنَّ أهم الأهداف التي يتفق الأطراف الثلاثة على ضرورة تحقيقها يتمحور حول حتمية خروج القوات الأجنبية، وخصوصاً الأميركية، من المنطقة، إضافةً إلى إيجاد حل للأزمة الأفغانية بجهود إقليمية، تصبح الملفات المعقدة بينهما سهلة الحلّ، فضمن المواضيع التي جري الاتفاق عليها في لقاء الوزيرين الإيراني والروسي الأخير، إضافة إلى العمل على تسريع المصادقة على اتفاقية خاصة بالوضع القانوني لبحر قزوين تمنع تواجد القوات الأجنبية فيه، وضع الصيغة النهائية لاتفاق تحالف استراتيجي بين موسكو وطهران في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية، مع الإشارة إلى تصريح الوزير الإيراني حول تكامل هذا الاتفاق مع معاهدة التعاون الاقتصادي والاستراتيجي التي سبق أن وقّعتها الجمهورية الإسلامية مع الجانب الصيني في آذار/مارس الماضي.
وبما أنَّ التوافق الذي طغى على لقاء وزيري الخارجية الروسي والإيراني طال عدداً من المواضيع التي شكَّلت عبر سنوات طويلة ساحة للتجاذب مع الولايات المتحدة، إذ إنَّ اختلافاً في وجهات النظر قد حكم رؤيتهم لكيفية مقاربة الأمن الجماعي الإقليمي، بسبب الإصرار الأميركي على تثبيت الوجود العسكري في المنطقة والرغبة في تثبيت الأمن الجماعي الإقليمي على أسس تحفظ مصالحها الاستراتيجية، فإنَّ القراءة المتأنية لصيغة التحالف الاستراتيجي بين موسكو وطهران، ضمن نقاط أخرى تم الاتفاق عليها، تؤكد الإصرار على حصر آلية إدارة المنطقة بدولها ووفق مصالحها الاستراتيجية، والتي يشكّل بناء نظام أمن جماعي إقليمي عمودها الفقري.
وإذا كان من الطّبيعي أن نشهد تطوراً للعلاقات الصينية الروسية، إذ إنَّ التوافق بينهما قد يكون محكوماً بعوامل الجوار الإقليمي، وحتمية توفيق الرؤى الاستراتيجية لمواجهة التهديدات، إضافة إلى تعزيز أسس بناء نظام عالمي جديد، يوافق رؤيتيهما، فإنَّ قرار هاتين القوتين بتعميق سبل التعاون وتنسيق الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى مع دولة ذات طموح إقليمي، وتخضع لعقوبات أميركية معقدة، يعد خروجاً على الفلسفة التي حكمت واقع العلاقات الدولية، ويؤكّد الإصرار على إعلان أفول عصر الأحادية الأميركية.
إنَّ مسار تطور العلاقات الإقليمية في وسط آسيا وشرقها، والذي بدأت خطواته العملية مع توقيع الصين والجمهورية الإسلامية اتفاقية تعاون الاقتصادي والاستراتيجي في آذار/مارس الماضي، ومن ثم قبول عضوية الجمهورية الإسلامية في منظمة شنغهاي الشهر الماضي، وبعدهما إعلان الطرفين، الروسي والإيراني، نيّتهما توقيع اتفاقية استراتيجية تتوافق مع المسار الاستراتيجي للاتفاق الصيني الإيراني، يؤكد انطلاقة مشروع بناء نظام دولي تعددي، إذ إنَّ الدولتين العظميين في علاقاتهما مع الدول المناوئة للولايات المتحدة، كالجمهورية الإسلامية على سبيل المثال، خرجتا من دائرة الحذر التي حكمت المسار الذي تم اعتماده منذ انتهاء الحرب الباردة.
إنَّ محاولة فهم الأطر التي حكمت الاندفاعة الصينية والروسية تجاه الجمهورية الإسلامية، تجعل عملية التقارب مع هذه الأخيرة، حدّ الانغماس، أمراً مفهوماً، فالحذر الروسي الصيني المشترك من السياسات الخارجية الأميركية العدائية تجاه الجمهورية الإسلامية تقاطع مع إعلان البنتاغون عن خطط لشنّ هجوم على الجمهورية الإسلامية خلال 24 ساعة من تلقي الأوامر من الإدارة السياسية، إضافةً إلى أنَّ الأهمية الجيوستراتيجية لموقع الجمهورية الإسلامية على الحدود الجنوبية لدول الجوار الروسي، وعلى تماس مع الحدود التركية، تجعل من هذه الدولة موقعاً متقدماً يخدم مصالح الدولة الروسية المرتابة من التحركات الأصولية النشطة على حدودها، ويضمن توازناً إقليمياً من خلال موقعها كحاجز طبيعي أمام الطموحات التركية النشطة في دول الجوار.
كما أنّ طبيعة السلوك الصيني المندفع والباحث في كيفية تحصين النمو الاقتصادي الكبير، ورسم إطار من العلاقات الأمنية والعسكرية القادرة على ضمان وصول إمدادات النفطية، ثم تكريس منظومة من العلاقات الفاعلة في عملية التأثير السياسي الضروري لفتح الأسواق الاستهلاكية في العالم أمامها، يؤكّد التقاء المصالح مع الطرف الروسي حول أهمية العلاقات الحيوية مع الجمهورية الإسلامية.
من ناحية أخرى، يُفترض الإشارة إلى أنَّ تلك الاندفاعة لم تكن وليدة ظروف سياسية دولية مستجدة، بل إنَّ الأهمية الحيوية للجمهورية الإسلامية كانت مكرّسة في إطار الاستراتيجيات الروسية والصينية منذ انتهاء الحرب الباردة، غير أنَّ براغماتية القوتين العظميين وتطبيق سياسات تفترض تحقيق التوازن بين عملية البناء الداخلي الضروري بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وعدم إثارة ريبة القوة العظمي الأميركية، أخّرت جميعها عملية اتخاذ القرار بالانفتاح على الدولة المناوئة للولايات المتحدة منذ انتصار ثورتها.
أما حيثيات توقيت هذا القرار، فيعود جزء منها إلى المسار الَّذي سلكته الجمهورية الإسلامية في سياساتها الخارجية، إذ إنَّ الجدية التي وسمت مفاوضاتها مع القوى الكبرى حول برنامجها النووي والتزامها الكامل ببنود خطة العمل المشتركة أكّدت عدم وجود نية لامتلاك سلاح النووي، ثم إنَّ التقاء المصالح المشتركة بين الدولة الروسية والجمهورية الإسلامية حول ضرورة دعم الدولة السورية ومنع انهيارها كرس ضرورة تعميق أواصر التحالف السياسي والعسكري القائم على احترام علاقات حسن الجوار.
وفي ما يتعلّق بموازين القوى العالمية، إنّ الانسحاب الأحادي الأميركي من خطّة العمل المشتركة، المكرسة بقرار أممي، معطوفاً على كيفية الخروج العشوائي من أفغانستان، والقرار الأميركي بالانكفاء من الشرق الأوسط والتوجه نحو بحر الصين، إضافةً إلى الرفض الأميركي للانفتاح الروسي على أوروبا عبر خط السيل الشمالي، شكّلت دلائل على قلق الولايات المتحدة من تأكل النظام العالمي القائم، وأظهرت عجزها عن مجاراة التغيرات الدولية المتسارعة، فالتكتلات الآسيوية عبر شنغهاي، والدولية عبر البريكس، إضافةً إلى الاتفاقيات الاستراتيجية الثنائية، قابلها في المقلب الآخر انقسام، إذ إنَّ بعض قادة أوروبا باتوا يتحدثون علانية عن كيفية استخلاص العبر من الخيارات الاستراتيجية الأحادية الأميركية، من أجل تعزيز سياسة خارجية أوروبية مستقلة، إضافةً إلى توجيه السهام إلى حلف شمال الأطلسي عبر حديث ماكرون عن موته الدماغي.
إذاً، إنَّ مقارنة الاندفاعة الآسيوية نحو التكامل والاندماج والعمل على تكريس آلية إقليمية للأمن الجماعي، مقابل تفكّك أدوات القوة الأميركية وتشتّت منظومة حلفائها، يجعل من الإطار الحاكم لواقع العلاقات الآسيوية بأطرافه الروسية والصينية والإيرانية أساساً لبناء تحتي يستند إليه النظام الدولي الجديد، فالجرأة المقرونة بالقوة، والقرار المستند إلى أسس واقعية، يؤكّدان إمكانية التحلّل من القيود التي فرضها النظام الدولي الأحادي.
وعليه، يمكن إدراج زيارة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان إلى روسيا ضمن إطار السياق المكمل لمشروع آسيوي، افترض انهيار منظومة القوة الأميركية، وتبنّى استراتيجية ترتكز على ضرورة ملء الفراغ عبر آلية دائمة تخرج من إطار ردّ الفعل المرحلي، لتكرس مرحلة جديدة من التوازن الدولي المتعدد الأقطاب، خارج إطار المثل الغربية والرغبة الأميركية.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.