مسارات جديدة للمواجهة العالمية.. محاولة أميركية لاستعادة زمام المبادرة
لم تكن العمليّة العسكرية الروسية في أوكرانيا سوى الشرارة التي أشعلت نار التجاذبات الدولية بعد فترة من المساكنة القسرية بين الأقطاب الدوليين؛
فجنوح العلاقات الدولية نحو مسار المواجهة النشطة لم يكن مرتبطاً بعملية عسكرية، هدفت الدولة الروسية من خلالها إلى تأمين خاصرتها الرخوة على حدودها الغربية، أو بانتهاك أميركي لواقع سعت الدولة الصينية إلى تكريسه في تايوان منذ أربعينيات القرن الماضي، إنما يمكن ربطه بمسار محدّد لشكل جديد من التوازنات الدولية الممهدة لنظام دولي جديد، تهدف من خلاله القوى الدولية المنافسة للتحالف الغربي إلى استعادة موقع يناسب قدراتها العملية على التأثير في القرار الدولي.
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لم تكن، كما سوّق الغرب، خياراً روسياً تم الإعداد له مسبقاً ضمن إطار إستراتيجية تهدف إلى ابتلاع أراضي الدول السوفياتية السابقة، طمعاً بمساحات جغرافية إضافية، وكذلك لم تكن تعبيراً روسياً عن رفض لمجاورة نموذج ديمقراطي بأفكار ليبرالية، كما يدعي زيلينسكي.
وفي هذا الإطار، يفترض تحليل الاتجاه الأميركي السابق لردّ الفعل الروسي في أوكرانيا واللاحق له، من خلال زيارة بيلوسي إلى تايوان، مع ما هدف إليه الرئيس الأميركي في زيارته إلى الشرق الأوسط، إضافة إلى دفعه الدول الأوروبية إلى التكتل خلف أوكرانيا، وتضحيتهم بأمنهم الطاقوي والجماعي على حساب شعوبهم، من أجل إفشال بوتين ومحاولة كسره، فحراك الولايات المتحدة الأميركية المتعدد الاتجاهات لا يمكن أن يترجم إلا في إطار محاولة أخيرة تعبر عن خيار أميركي هو بمنزلة رد يمكن من خلاله تعطيل قرار دولي هدفه إلغاء مفاعيل هيمنتها وتفوقها العالمي.
يلاحظ في هذا الإطار أن الولايات المتحدة الأميركية إذا كانت قد كسرت أحد الخطوط الحمر التي أرساها التوازن الدولي القائم، لناحية عدم التصادم مع القوى الكبرى، وخصوصاً النووية منها، بطريقة مباشرة، فإن أساليب المواجهة التي اعتمدتها، من خلال الأزمة في أوكرانيا أو الحراك المستجد في تايوان، لم ترقَ إلى المستوى الذي يُعبر عن قوة عظمى تتربع على رأس النظام العالمي.
إن اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على حليفها الأوكراني زيلينسكي أو اتخاذها خيار المواجهة الناعمة في تايوان، عبر التحريض على استقلال الجزيرة أو دعمها بالسلاح، يؤكد يقينها بتراجع هيبتها، ويعبر حكماً عن عدم قدرتها على تحديد الأطر المسموح للقوى الأخرى بالتحرك ضمنها.
وإذا كان افتراضنا أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تراجعت في قوتها، فإن هذا الافتراض لا يعني أنها أصبحت في موقع ضعيف لا يمكّنها من المبادرة أو التأثير الفاعل في مسارات العلاقات الدولية، إنما يدل على أنها، أي الولايات المتحدة، تمتلك من الخيارات التي تسمح لها بإمكانية تحقيق أهدافها، وفق شروط وظروف لم تكن تحتاج إلى توافرها سابقاً، فهي قادرة على أن تصعب على القوى المناوئة لها مهمة تحقيق أهدافها، إذ إنها ما زالت تتحكم في كثير من المفاصل والخيوط التي يمكن أن تشغل تلك القوى بقضايا تتسم بالأهمية، بحيث إنها قد تدفعها إلى مراجعة أولوياتها، وإعادة قراءة خططها الإستراتيجية والتكتيكية، مع ملاحظة عدم تمكنها من تحقيق هذا الهدف عبر مواجهة مباشرة، كما حصل في مواجهة الولايات المتحدة للعراق أو كوريا الشمالية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية على سبيل المثال.
لقد قامت الفلسفة الأميركية للنظام العالمي منذ انهيار الثنائية القطبية على تقديم النموذج الأميركي كنموذج متفوق على المستوى الأخلاقي أولاً، والعسكري وإمكانية تحصيل إجماع دولي، عن طريق الترغيب أو التهديد، ثانياً. فسلاح العقوبات الأحادية الذي أبدعت في تشريعه واستخدامه منذ الحرب الباردة لم يكن يعبر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عن قرار أميركي فردي بمقاطعة الدولة المستَهدفة وحصارها، إنما استطاعت، من خلال فائض قوتها، أن تظهره كقرار دولي أخلاقي ملزم، إذ كانت القوى الدولية، وحتى المناوئة لها، تؤكد التزامها به، خوفاً من أيّ رد فعل لا تحمد عواقبه. وإذا قرأنا تجربتها في مجال الحملات العسكرية والحروب التي خاضتها على أكثر من جبهة - العراق أنموذجاً - فإن صمتاً دولياً كان يرافقها، حتى أمكن تصنيفه في كثير من الأحيان على أنه تواطؤ غير مقصود.
امتلك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الجرأة ليعلن عن الواقع الضعيف المستجد للولايات المتحدة الأميركية، إذ كان يعبر دائماً عن رفضه المسار الاستراتيجي الذي تبناه سلفه باراك أوباما. وبين هذين الرئيسين، يمكن الحديث عن فارق أساسي؛ ففي الوقت الذي كان جهد باراك أوباما ينصبّ على كيفية مواجهة الأخطار المحدقة بالتفوق الأميركي تجاه الصين في الدرجة الأولى، والدولة الروسية في الدرجة الثانية، وفق إستراتيجية الإنكار ومحاولة إيجاد الحلول عبر تدوير الزوايا ومحاولة تكريس دور متجدد للولايات المتحدة يجنبه خيار الاعتراف بالتراجع أو السقوط، عبّر الرئيس السابق دونالد ترامب عن هذا الواقع بلغة فيها من الصراحة ما أمكن تفسيرها بسهولة على أنها اعتراف بانهيار دراماتيكي، مع الإشارة إلى فشله في تحديد الأسباب الحقيقية لهذا الانهيار، إذ إنه لم يعترف بتقدم القوى الكبرى الأخرى ونجاحها في مراكمة عناصر القوة، وكان يعتقد أنَّ سياسات سلفه هي المسبب الأساسي لهذا الواقع.
أما بالنسبة إلى جو بايدن، فإنَّ قناعته بتراجع القدرات الأميركية وعدم قدرة الولايات المتحدة على المحافظة على تفوقها العالمي لا تحتمل النقاش. ولذلك، ما يُفترض بحثه لا يتعدى كيفية مقاربته لهذه الإشكالية. في هذا الإطار، يمكن بسهولة قراءة رد الفعل الأميركي وفق سياق مختلف في شكله ومضمونه عما كان من الممكن توقعه من قطب متفوق.
وبناءً عليه، يمكن تحليل السياسات الأميركية في هذه المرحلة وفق هذه القاعدة، فمسار الأحداث في أوكرانيا، حيث الدعم الأميركي لا يتعدى إرسال شحنات من السلاح أو تقديم دعم مادي مع إمكانية حشد الحلفاء، لم يتطور إلى إمكانية التفكير في حملة عسكرية ضد روسيا.
وفي السياق نفسه، وعلى اختلاف ظروف الحالة التايوانية، يمكن تصنيف الحركة الأميركية في شرق آسيا ضمن إطار دغدغة القوة الصينية، لعلها تقدم، تحت وطأة الالتزام بقرارها عدم حل الأزمة التايوانية والواقع في بحر الصين عسكرياً، من التنازلات ما يؤخّر اندفاعتها أو يفرملها.
وإذا قاربنا عرضياً الأحداث الأخيرة التي تشهدها المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن آلية العمل الأميركي لا تختلف كثيراً عما سبق، إذ إن خيار العقوبات والضغوط القصوى فقد فعاليته، إضافة إلى انعدام أي إمكانية لطرح إستراتيجية أكثر حيوية أو أكثر توافقاً مع الصورة النمطية الأميركية التدخلية ضدها.
وبناء عليه، يمكن تصنيف السلوك الأميركي المستجد في إطار محاولة قوة مترنحة تعاني الضعف، لعلها تتمكن، بناء على أمنيات، من أن تستعيد المبادرة، ولو بشكل جزئي. ففي هذه المرحلة، لم يعد الطموح الأميركي الحالي يعبر عن مشروع قوة متفوقة لا ينازعها عليه أحد، إنما يمكن قراءته ضمن إطار سعي دولة عادية لتحصيل مكتسبات تضمن، وفق منظور الإدارة الحالية، موقعاً يليق بتاريخها في النظام الدولي المستجد.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.