العودة الخليجيَّة إلى سوريا.. منطلقات ومزايا
لم تكن زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان إلى سوريا مفاجئة لناحية الشكل، إذ إن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين استؤنفت عبر إعادة فتح السفارة الإماراتية في دمشق في العام 2018، غير أنَّ قراءة الحدث من حيث مضمونه ودلالاته، معطوفاً على اللقاء الذي جمع مدير المخابرات السعودي بنظيره السوري في مصر على هامش المنتدى العربي الاستخباري، تؤكّد فرضية التحول الاستراتيجي للرؤية الإماراتية السعودية، إضافة إلى المصرية، تجاه قضايا المنطقة واصطفافاتها.
وإذا كانت الدّولتان الإماراتية والسعودية دعمتا ما كان يُسمى بالحراك السوري في بداياته، فإنهما استرسلتا في مشروعهما وذهبتا بعيداً، إذ إنَّ الجماعات المسلحة والتكفيرية أعلنت ارتباطها العقائدي بالمشروع الخليجي الذي تمحور منذ العام 2011 حول ضرورة قيام نظام مذهبي مستقر في سوريا، يراعي المصالح الخليجية، ويشكل خط دفاع أول في وجه ما يعتبر تمدداً لنفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة.
وعلى هذا الأساس، استمر التشدّد الخليجي الواضح تجاه الدولة السورية وقيادتها طيلة فترة الأزمة السورية، وظهر التعنّت الواضح من جانبها، وإصرارها على نهائية قرار إسقاط الدولة السورية، وخصوصاً مع وصول المرشح الأميركي دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في العام 2017، إذ تم الاستناد إلى الزخم الَّذي أوحت به خطابات دونالد ترامب المتكررة حول عزمه على مواجهة الجمهورية الإسلامية حتى إسقاط نظامها، إضافةً إلى المسرحية الأميركية التي أعلنها ترامب مراراً حول عزمه على ضرب الدولة السورية واستعداده للدخول المباشر على خط أزمتها بغية تسريع إسقاطها.
واللافت أنَّ التشدّد الخليجي بشكل عام استند إلى خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتصريحاته، ولم يلتفت إلى وثيقة استراتيجية الأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض في العام 2017، أي في مستهلّ ولاية دونالد ترامب، إذ يفترض أن تعبر عن الخطط الاستراتيجية الحقيقية للمرحلة القادمة.
وبموجب هذه الوثيقة، تم التأكيد على توجيه الجهود وتحويل الاهتمام الأميركي نحو بحر الصين ومشروع محاصرة المشروع الصيني الطامح إلى العالمية. وبموجب الوثيقة نفسها، تمت الإشارة إلى ضرورة تخفيف الأعباء العسكرية والمادية المخصصة لمنطقة الشرق الأوسط، بما يعنيه هذا الأمر من انكفاء، لانعدام المزايا الممكن تحصيلها من هذا الوجود، بل إنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف المنطقة سابقاً بأنها مجرّد رمل وموت.
في المقابل، اعتقدت الدّول الخليجيّة، وأعني بذلك السّعودية والإمارات، أنَّ بإمكان إغراء الإدارة الأميركية، ومحاولة الاستفادة من المزايا الشخصية لدونالد ترامب، إذ إن العقلية التجارية ومعيار الربح والخسارة المادي يشكلان الأسس الرئيسية التي تحكم سلوكه.
وعليه، عملت الدولتان على جذب الإدارة الأميركية السابقة، وإقناعها بالانغماس في ما يمكن أن يحقق طموحاتهما الإقليمية عبر صفقات سلاح واستثمارات بمئات ملايين الدولارات، وغفلتا عن أن الإدارة الأميركية في علاقاتها الخارجية تعتمد معايير براغماتية تضمن تحقيق مصالحها من دون أي ارتباط بثوابت تقيد حركتها نحو ما تعتبره مصالح قومية واستراتيجية.
وبين البراغماتية الأميركية والقرار النهائي بالانكفاء من الشرق الأوسط، والثوابت الخليجية المقيدة بمفاهيم شخصية تمسّ بقاء حكّام الخليج على عروشهم، حيث ضرورة المحافظة على العداء للجمهورية الإسلامية كإطار مشرع لبقائهم في الحكم نتيجة غياب الشرعية الداخلية، انغمست الدول الخليجية في مغامراتها الإقليمية ومحاولة بناء إطار أو مجال حيوي تعتبره ضرورياً لوجودها، مهملةً بذلك أطر التنسيق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وموازين القوى المستجدة في الشرق الأوسط.
في مرحلة لاحقة، شكَّل وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الحكم في الولايات المتحدة نكسة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فواقعيته السياسية وعدم إمكانية إغرائه عبر بعض الهدايا الشخصية أو الصفقات المالية الضخمة، وإعلانه أنَّ العلاقات مع الدول الخليجية ستخضع في المرحلة اللاحقة لمعايير مختلفة تراعي المعايير الأميركية المزمعة لحقوق الإنسان وتستند إلى مفهوم المصلحة الأميركية وفق الرؤية المستجدة، فالعودة الأميركية إلى المفاوضات النووية مع إيران لن تراعي الرؤية الخليجية.
كما أنَّ موقفها من الحرب على سوريا سيكون مستنداً إلى معايير الربح والخسارة، وإلى التوافق الإقليمي والدولي، إذ إنَّ الطموح الإقليمي الخليجي لن يقف حجر عثرة أمام التوازن الأميركي الروسي أو حتى التوازن الإقليمي الدولي بنسخته المستجدة، بعد تمكن الجمهورية الإسلامية وتركيا من حجز مقعد أساسي على خارطته.
ولأنَّ الرؤية الخليجية الحالية ما زالت قاصرة عن فهم التحولات الإقليمية المستجدة بعد فشل المشروع الأميركي الذي كان يهدف إلى تثبيت شرق أوسط جديد عبر القضاء على الدول الأساسية في محور الممانعة، أي سوريا والجمهورية الإسلامية، استمرت الممالك الخليجية بمحاولة الالتفاف على التوازن الإقليمي المستجد عبر الانفتاح على الدولة السورية ومحاولة إعادة العلاقات إلى مرحلة ما قبل العام 2011، ليقين وهميّ لديها أساسه أنَّ إعادة احتضان النظام السوري، وفق مفهومها، قد تساعد في تثبيت نوع من التوازن، وقد تشكل خطّ دفاع أول أو منطقة فاصلة على الأقل في وجه التمدد التركي والإيراني.
إنَّ العودة العربية إلى سوريا، بأطرافها الإماراتية أو السعودية أو حتى المصرية، لم تأتِ تحت عنوان مبادئ جامعة الدول العربية، أي احترام سيادة الدول الأعضاء وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، ولم تكن أيضاً تحت عنوان اتفاق الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي الموقع عليه في العام 1950.
ومن خلال التصريحات التي تصدر عن دوائر القرار في هذه الدول، يظهر أنَّ المشروع المستجد يهدف إلى محاولة مقايضة الدولة السورية، إذ يفترض إعادة تطبيع العلاقات السورية العربية وتقديم مساعدات اقتصادية وإدخال استثمارات خليجية في الاقتصاد السوري المنهك، مقابل تمكين الدولة السورية من مواجهة المد التركي، وقبولها بموازنة سياساتها والحدّ من انغماسها في ما يسمي بالمشروع الإيراني، إضافةً إلى هدف خليجي طموح يتمثّل بفكّ ارتباط الدولة السورية بحزب الله اللبناني ومنعه من إسقاط لبنان تحت قبضته، كما تدّعي.
وإذا كانت الدّولة السورية قابلت موضوع العودة العربية إليها بإيجابية وانفتاح، فإنها استندت في هذا القرار إلى مفهوم الحق السيادي بالعلاقات الطبيعية مع دول الجوار وحقّها في استعادة مقعدها في جامعة الدول العربية، ولم تربط هذه العودة بتكريس شرعية النظام القائم فيها، إذ إنَّ هذه العودة ستعدّ اعترافاً عربياً جامعاً بحق الدولة السورية وشعبها في اختيار نظامها وتقرير مصيرها، واعترافاً بفشل المشروع التدخّلي لبعض الدول الأعضاء فيها.
وإذا كان من المنطقي الاعتراف بأنَّ هذه العودة ستمكّن الدولة السوريّة من مواجهة بعض تداعيات الحرب عليها، فإنَّها من ناحية أخرى ستخلق لها مجالاً للمناورة والالتفاف على مشروع "قيصر" والعقوبات الأوروبية عليها، وخصوصاً أنَّ الانفتاح العربي عليها قوبل بتحفظ أميركي ضمني.
أما عمّا تسعى إليه الممالك الخليجيّة، فإنَّ القصور الذي شاب رؤيتها للانكفاء الأميركي في المرحلة السابقة، ما زال يتحكَّم في عملية اتخاذ القرار على مستوى سياساتها الخارجية، فمحاولة إغراء الدولة السورية عبر بعض المزايا الاقتصادية من أجل سلخها عن حلفائها، تؤكّد إسقاطها للمفاهيم التي تحكم شرعية وجود الأنظمة فيها على الدول الأخرى، من دون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف البنى التي تشكل البيئة المجتمعية والدولتية في ما بينها.
وبناءً عليه، إنَّ العودة إلى سوريا، وإن كانت ستضمن للدولة السورية عدداً غير محدود من المزايا الاقتصادية والسياسية، فإنها لن تؤدي حكماً إلى الغايات الخليجية المأمولة، وقد يصبح بالإمكان تصنيفها في خانة التراجع الخليجي والاعتراف بفشل مشاريع عملت على تسويقها واستنزفت طاقاتها من أجل تحقيقها على مدى أكثر من 10 سنوات.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.