تهديدات كوخافي.. خارج سياق الواقع!
لم تكن تهديدات رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي، أفيف كوخافي، خارج سياق النمطية الإسرائيلية في مقاربة الإشكاليات التي يواجهها الكيان، إذ ترتكز سياسات الردع الإسرائيلي على قوة عسكرية متفوقة معطوفة على عدم تردد في استخدامها من أجل تحقيق الأهداف المفترضة، مهما تعقدت الظروف السياسية والأمنية والميدانية، فالمعروف أنَّ الكيان الإسرائيلي، منذ النكبة، بادر إلى الهجوم في معظم الحروب التي خاضها، إلا ما ندر، مع الإشارة إلى قدرته الفائقة على تعديل خططه العسكرية بما يتوافق مع متطلبات المعركة.
وفي مقابل تلك الدينامية الفاعلة، لم تكن الدول العربية قادرة على مجاراة الفعل العسكري الإسرائيلي، إذ كانت تخوض حروبها وفق تقدير يفترض أن أفضل الممكن يتمحور حول كيفية تقليل آثار الهزيمة المحسومة. وبناء عليه، استطاع الكيان الإسرائيلي أن يكرس في العقل الباطني العربي ضرورة تقبل اللغة الإسرائيلية كلغة المنتصر القادر على أن يفرض ما يشاء.
وفي هذا الإطار، لم تكن الدولة اللبنانية متحررة من عقدة الانهزام العربي، إذ تبرأت من مشروع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، والتزمت في رد فعلها حدود القرارات الدولية الداعية إلى إنهاء الاحتلال، إضافة إلى تصريحات التنديد التي أتخمت الإعلام العربي وكرّسته كرد فعل مقاوم يمكن أن يساهم في ردع الكيان.
وإذا كانت بعض الدول العربية قد حرصت على تعميم أفكار تؤكد قوتها وقدرتها على المواجهة، لضرورات الشرعية الداخلية طبعاً، مع ربط أسباب فشلها في مقاومة مشاريع الاحتلال بظروف قاهرة، فإنَّ حالة الدولة اللبنانية، القائمة على الضعف والمسلّمة بانعدام القدرة، سمحت بتعميم خطاب يجعل الوهن والضعف إطاراً ينطلق منه المشروع اللبناني المعبّر عن رفض احتلال أرضه.
وفق هذا السياق، قامت أدبيات الخطاب السياسي الرسمي اللبناني على ضرورة الوصول إلى تسوية تجسدت في فترة معينة بالسعي للوصول إلى اتفاق مع الكيان الإسرائيلي؛ اتفاق 17 أيار نموذجاً، غير أن الفشل في تقديم التبريرات الكافية لتسويق هذا الخيار دفع في اتجاه تكريس سردية الضعف مقابل العدو، إذ إنَّ الإصرار على اعتبار قوة لبنان في ضعفه يلغي أي إمكانية لنجاح مشروع مقاوم في تحرير الأرض بالقوة.
ولكن ما حدث في أيار/ مايو 2000 أنهى سردية الضعف مقابل العدو، وكرَّس معادلة جديدة ترتكز على توازن جديد للقوة التي لا تميل لمصلحة الكيان الإسرائيلي، إنما تقيد حركته بخطوط حمر يرتبط تجاوزها بأثمان عالية. وخلال أكثر من 20 عاماً، راكمت المقاومة قدراتها، ونجحت في التحول من مبادرة محدودة تسعى لقتل جندي أو تفجير عربة أو موقع إلى قوة متماسكة تملك مشروعها ورؤيتها.
وإذا كان الكيان الإسرائيلي قد انسحب من لبنان تحت وطأة ضربات المقاومة، ومن دون أي اتفاق أمني، فإنَّ فرضية أن العقل الأمني والسياسي الإسرائيلي لم يستوعب فكرة إعادة مقاربة خطابه مع الدولة اللبنانية، وفق المتغيرات التي أحدثتها المقاومة، ليست واقعية.
ومع تسليمنا جدلاً بأنّ مؤسسة صنع القرار في الكيان الإسرائيلي تملك من الدينامية ما يمكنها من إعادة قراءة التغيرات التي تواجهها وتعديل كيفية مقاربتها، يبقى أن نستنتج أن تمسّك الكيان بلهجته المستندة إلى القوة مرتبط بالخوف من كسر الهيبة التي تحكمت في العقل العربي منذ نشأة الكيان.
وعلى الرغم من اعترافه بأنَّ الردع المفروض على الحدود الشمالية يضع أي تهديد غير محسوب في خانة العقم، وقد يؤثر في إضعاف بنية الأمن القومي الاستراتيجي، فإنَّ الإصرار على أسلوبه يرتبط بالانقسام السياسي الحاد وعدم الإجماع على دور قوة المقاومة في الداخل اللبناني.
وبالتالي، إنَّ الرسالة التي أطلقها كوخافي لم تكن موجهة إلى قيادة المقاومة، ولا يمكن توصيفها كردّ على خطاب الأمين العام، فالموقف الذي أطلقته قيادات المقاومة من ترسيم الحدود البحرية أو التنقيب في حقل كاريش لم يخرج عن الإطار السيادي للدولة اللبنانية، وبقي محدداً في دوره ضمن إطار الأجندة السيادية للدولة اللبنانية.
وبالتالي، لا يمكن قياس الموقف الأخير للأمين العام للمقاومة كفاعل رئيسي ووحيد في قضية حقل كاريش وترسيم الحدود، إنما يُفترض، على الرغم من فعاليته، أن يُصنف في خانة الداعم للدولة والمنضوي خلف قرارها.
وبناء عليه، إنَّ القيادة الإسرائيلية اختارت التعاطي مع الدولة اللبنانية انطلاقاً من خاصرتها الرخوة المتمثلة بالخوف من حرب تزيد معاناة الشعب اللبناني في ظل الحصار الدولي، مع محاولة تحميل المقاومة اللبنانية مسؤولية أي حدث يمكن أن يحصل.
وما كان لافتاً أن الحكومة الإسرائيلية أعلنت قبل عدة أيام من تصريحات كوخافي، ونتيجة الخوف مما كان سيحمله خطاب السيد نصر الله، أنها لن تستخرج الغاز من المناطق المتنازع عليها، غير أن طبيعة الموقف الذي أعلنه السيد نصر الله في خطابه فُسر لدى الكيان بالتزام المقاومة قرار الدولة في هذا المجال.
لذلك، عمد الكيان الإسرائيلي إلى رفع منسوب تهديد المعنيين في الدولة اللبنانية، والإيحاء بالاستعداد لأي عمل عسكري تتطلّبه حماية منشأة النفط الآتية إلى كاريش، بهدف حثّهم على عدم ملاقاة المقاومة في مشروعها القائم على الاستفادة من القوة العسكرية التي تمتلكها.
وفق هذا المنطق، يمكن القول إنَّ الكيان الإسرائيلي استنتج نهائية التزام المقاومة بسقف الدبلوماسية اللبنانية المحدد بالوساطة الأميركية، فالدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية اللبنانية إلى هوكشتاين بعد التشاور مع الرئاستين الثانية والثالثة طمأنت الإسرائيلي إلى إمكانية تمرير مشروع كاريش، من دون الخوف من الاصطدام بالمقاومة. ولذلك، رفع مستوى تهديده للدولة اللبنانية، لعلَّها تستبعد أي دور للمقاومة في هذا الملف.
وإذا كان ما ظهر في تهديدات كوخافي يعبر عن حقيقة الرؤية الإسرائيلية وموقفها الثابت من حقل كاريش، فإنَّ جزءاً من المشهد غاب عن تلك الرؤية، فالردع الذي أرسته المقاومة بعد تحرير عام 2000، وإصرارها على استثماره في الدفاع عن الحقوق البحرية، يفترضان قراءة موقف المقاومة وفق التقدير نفسه الذي حكم سلوكها في السابق. وبناءً عليه، إنَّ قرار استخدام المقاومة القوة العسكرية من أجل الدفاع عن الحقوق، لم يكن مرتبطاً بقرار الدولة اللبنانية التي عجزت في السابق عن أداء وظيفتها في هذا المجال.
ولذلك، إنَّ أي قرار تعكف المقاومة على اتخاذه، لناحية الانكفاء خلف قرار الدولة أو تخطيها، لن يسلك المسار اللبناني لعملية صنع القرار الذي تتحكم فيه ضوابط الخيارات النمطية العاجزة عن التحرك بفعالية في هذا الملف.
وبناءً عليه، يمكن التأكيد أنّ الرؤية التي يمكن استنتاجها من تهديدات كوخافي تفتقر إلى الموضوعية والواقعية التي تحرص عليها القيادة الإسرائيلية عند مقاربة أي مسألة مرتبطة باهتمامات المقاومة.
لذلك، يمكن القول إنّ الغاية من هذه التهديدات لن تتخطى إطار الإرهاب اللفظي تجاه الدولة اللبنانية، على أن تتغير نوعية الرسائل الإسرائيلية إذا تيقّنت القيادة الإسرائيلية أن المقاومة استشعرت خطراً، كالتحضير لاعتداء على لبنان أو عجز الدولة اللبنانية عن مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية، قد يدفعها إلى أن تبادر بما ينسف أيّ إمكانية لاستثمار نفطي إسرائيلي على طول الشواطئ الفلسطينية.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.