العدوان على الضفة.. دوافع تاريخية واستراتيجية
ليس كافياً قراءة العدوان الذي ينفذه "جيش" الكيان الإسرائيلي منذ نحو 10 أيام على الضفة الغربية من خلال محددات طوفان الأقصى وتداعيات العمليات العسكرية في غزة فقط، إذ إن الواقع الميداني في القطاع معطوفاً على جبهة الإسناد في جنوب لبنان الملاصق لفلسطين المحتلة أثبت عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق اختراق يمكن ترجمته ضمن مسار تحقيق الأهداف التي أعلنها نتنياهو، وبالتالي من غير المنطقي تفسير العدوان الإسرائيلي في الضفة على أنه استكمال لمسار تخلص الكيان من التهديدات التي تحيط به.
ومن خلال المقارنة بين حجم التهديدات التي ما زال يتعرض لها في غزة، إضافة إلى ثوابت محور المقاومة لناحية الإصرار على هزيمته في هذه المعركة المصيرية التي تكاتفت فيها قوى المحور من اليمن إلى العراق ولبنان وإيران، من دون أن نهمل دور سوريا الذي لا يقل تأثيراً عن غيره، يصبح التوجه الإسرائيلي نحو الضفة في هذه المرحلة كمن سلَم بعدم إمكانية ردع هذه الجبهات وتوجه نحو البحث عما قدَر أنه استثمار مضمون نتائج ويتوافق بالمبدأ مع مخططات قديمة متجددة تلبي من حيث مضمونها تطلعات اليمين المتطرف بشكل عام ومشروع الالتفاف على أي توجه دولي لتعويم السلطة ضمن مخطط وأد حركة التحرر الفلسطيني وقيام الدولة الفلسطينية، وبالتالي قد يساعد في الالتفاف على مكتسبات المقاومة التي فرضها الميدان منذ أكثر من 11 شهراً من القتال وتحمل ضريبة دم المدنيين في القطاع.
في المبدأ، تحولت مؤسسة السلطة الفلسطينية منذ الانتفاضة الكبرى التي حدثت عام 2000 إلى مجرد هيكل متداعٍ غير قادر على مجاراة المشاريع الاستيطانية الصهيونية وتحصيل الحقوق من جهة، وكذلك غير قادر على ضبط الشارع الفلسطيني بشكل تام من جهة أخرى، فالمسار الذي اعتمده الكيان منذ تلك الانتفاضة لناحية التضييق على السلطة وعدم الالتزام ببنود اتفاق أوسلو، إضافة إلى دفعها إلى الانقلاب على الانتخابات النيابية التي حصدت فيها حركة حماس أكثرية مريحة عام 2006، ساعد في تكريس قناعة في الوعي الفلسطيني حول عدم فاعلية السلطة والمسار السياسي التفاوضي في استعادة الحقوق، وبالتالي ظهر واضحاً أن هذا السلوك كان مساعداً في استعادة روح المقاومة في الضفة، وإن كانت هذه المقاومة لم تخرج عن إطار المبادرات الفردية والتجمعات المقاومة المصنفة خارج إطار الاصطفاف السياسي المعروف، كعرين الأسود وكتيبة جنين وغيرها.
في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من الضغوط الدولية التي مورست على الكيان الإسرائيلي لناحية حثه على ضرورة التعاطي مع السلطة الفلسطينية في رام الله بإيجابية، لما لهذا التعاطي من تأثير متوقع في إنهاء المشروع المقاوم الفلسطيني وتمهيد الطريق لقطار التطبيع الذي أطلقته عدة دول عربية، إضافة إلى تلك التي وقعت سابقاً اتفاقات سلام مع الكيان، لم تبدِ الحكومات المتعاقبة على الكيان أي تأثر بهذه الضغوط، فقد سبق لنتنياهو أن وصف هذا الاتفاق بأنه استسلام وتعاطى معه في فترات حكمه بسلبية وسعى دائماً لتقويض حكم السلطة والدفع إلى انهيارها.
وإذا عدنا إلى فترة حكم نفتالي بينيت المعروف بوسطيته، فإن الواقع لن يختلف كثيراً من حيث الشكل عما عبر عنه نتنياهو، إذ إنه تبنى رؤية المحلل السياسي ميخا جودمان المتمثلة بعدم الاستعداد لتجديد عملية سياسية تتطلب مساراً تفاوضياً مع السلطة ودفع السلطة إلى الاكتفاء بما حققته من أوسلو، أي دولة على مساحة لا تتخطى 18% من المتفق عليه سابقاً بموجب الاتفاق سالف الذكر.
وفي هذا الإطار، لم تكن خطة الحسم التي وضعها اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريش منفصلة عن السياق التاريخي للتعاطي الإسرائيلي مع السلطة الفلسطينية، إذ إن أهداف الخطة، التي يمكن اختصارها بتشجيع الاستيطان وإنكار وجود الشعب الفلسطيني وتشجيع هجرته وتشريع العنف، إضافة إلى رفض وجود أي كيان فلسطيني وإقرارها في الكنيست الإسرائيلي في تموز المنصرم، تؤكد أن الموقف من قيام دولة فلسطينية لا يختلف بين يمين ويسار.
وبالتالي، يمكن في هذا الإطار التقدير أن الكيان في محاولته الإيحاء أن عملياته في الضفة تستهدف محاربة الإرهاب على غرار ما ينفذه في غزة ليس إلا مجرد تبرير لتحقيق هدف لا يرتبط بتوصيف الضفة في إطار الإسناد أو محاولة وأد العمليات التي يخطط لها المقاومون دعماً للقطاع.
وبناء عليه، لم يكن التذرع بطوفان الأقصى والتهديدات التي ادعى الكيان رصدها في الضفة بعد السابع من أكتوبر إلا محاولة لاستغلال سرديته حول التهديدات الوجودية التي يواجهها من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف المرتبطة بالواقع الاستراتيجي الإسرائيلي ومحاولة تحسين الظروف والآليات التي ستساعد، من وجهة نظره، في عملية الالتفاف على نتائج طوفان الأقصى وعلى أي محاولة لتمرير مشروع حل الدولتين على المدى البعيد.
بالنّسبة إلى واقعه الاستراتيجي المتأكل، حيث تلاقى الفشل العسكري الإسرائيلي الَّذي كرس قناعة بفقدان الكيان تفوقه الردعي مع الضغوط الدولية، لمحاولة فرض رؤية لحل الصراع في المنطقة بما لا يتناسب مع العقيدة الأمنية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية، هدف الكيان إلى حسم ما أعلنه مراراً طوال حربه على غزة لناحية عدم قبوله بأي دور للسلطة الفلسطينية في غزة.
ومن خلال أي دور، إضافة إلى ما يمكن أن يحدثه أي مسار انتخابي فلسطيني من إعادة عقارب الساعة إلى عام 2006، سيتلمَّس الكيان فشلاً مزدوجاً، إذ إن من شأن هذا الدور أن يكرس في الوعي الدولي الجماعي ضرورة انصياع الكيان لحل الدولتين من دون أن نهمل ما يمكن أن يحدث إذا عادت حركة المقاومة الإسلامية حماس إلى السلطة من بوابة الانتخابات.
وإذا انطلقنا من هذه الفرضيات، سيتحول مشهد المقاومة الفلسطينية إلى كيان مؤسس يتمتع بالشرعية الشعبية، إضافة إلى إمكانية استغلاله لمقدرات وأسس السلطة المعترف بها دولياً من أجل تقييد أو عرقلة المخططات الكيان التاريخية.
من ناحية أخرى، لم ينجح الكيان، بالتحديد سموتريش وبن غفير، طوال الفترة الماضية في استغلال طوفان الأقصى والدعم الأميركي في محاولة توجيه ضربة استراتيجية إلى محور المقاومة، إذ إن الولايات المتحدة تقاطعت في قناعاتها مع تقييم المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لناحية عجز الكيان عن فتح جبهات أخرى، وخصوصاً في مواجهة حزب الله، إضافة إلى رفض الولايات المتحدة الانجرار إلى حرب إقليمية كبرى تحقق حلم الكيان التاريخي بالتخلص من خطر الجمهورية الإسلامية. أمام هذا الواقع، وجدت نتنياهو نفسه ملزماً بتقديم جائزة ترضية لحليفيه، إذ كان تقديره أن فتح الجبهة في الضفة سيمثل أهون الشرور مقارنة بجبهة لبنان أو جبهة إيران.
بطبيعة الحال، واستناداً إلى المقاومة الأسطورية التي يخوضها أهل الضفة، لناحية الاستعداد والتحضير المسبق واستغلال الواقع الجغرافي والديمغرافي المتداخل مع المستوطنات ونجاحهم في توجيه ضربات قاسية إلى القوات الإسرائيلية المتوغلة، إضافة إلى عدم تحييد أي منطقة في الضفة وتحويلها من شمالها إلى جنوبها إلى ساحة لعملياتها، إذ إن جنوب الضفة شهد أكثر العمليات دموية في مواجهة الاحتلال، يمكن التقدير أن هدف نتنياهو بتقديم جائزة ترضية بثمن مقبول لحليفيه فشل، ودليل ذلك أن الكيان أعلن الضفة منطقة عمليات عسكرية لجيشه.
أما بالنسبة إلى مخططات الكيان التاريخية، فيمكن الانطلاق من فرضية أن مجرد نجاح فكرة المقاومة في التجذر في مجتمع الضفة وفشل الكيان بالتعاون مع السلطة في تكريس المسار السلمي كوسيلة وحيدة لاستعادة الحقوق، بما يعني فرض وعي جماعي مختلف عن الوعي الجماعي المقاوم المترسخ في غزة، سيؤدي إلى وأد مشروع الكيان بضم الضفة وتهجير شعبها، وبالتالي فشل خطة الحسم وعدم تحقيق انتصار يمكن من خلاله الالتفاف على نتائج الطوفان الاستراتيجية.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة