تثبيت الردع بين المقاومة والكيان الإسرائيلي.. معركة بين الحروب
لم يكن الحديث الأخير لأمين عام حزب الله عن معادلات الردع التي نجحت المقاومة في إرسائها عرضياً أو ضمن سياق الحديث عن الفعل المقاوم الذي اتخذ منذ عام 1982 شكل المبادرات الفردية، التي كانت تهدف إلى توجيه ضربات يمكن من خلالها إفهام الكيان الإسرائيلي أن احتلاله الأراضي اللبنانية لن يكون نزهة عادية، كما توهم قادته السياسيون والعسكريون عام 1982.
وإذا كانت المقاومات اللبنانية قد نجحت منذ اجتياح عام 1982 في توجيه ضربات موجعة إلى الكيان الإسرائيلي، بحيث إنها استطاعت كيّ الوعي الإسرائيلي، وتكريس فكرة المخاطر التي ستفرض نفسها ضيفاً ثقيلاً على المشروع الإسرائيلي التوسعي، فإنها لم ترتقِ إلى مستوى التطبيق العملي لمعادلة رادعة تجعل الكيان الإسرائيلي يفكر عميقاً قبل إقدامه على أي عمل، أمنياً كان أم عسكرياً.
إنّ تقييم المسار الطويل للعمليات العسكرية والأمنية التي نفذها الكيان الإسرائيلي منذ نكبة فلسطين يظهر إهمال "إسرائيل" معيار المخاطر التي قد تنجم عن هذه العمليات، فالجرأة الإسرائيلية التي تمثلت في السابق بنوعية الشخصيات المستهدفة أو أمكنة تنفيذ العمليات البعيدة نسبياً عن فلسطين المحتلة تؤكد انعدام الخوف الإسرائيلي من أيّ رد فعل عليها.
الخيار العربي الّذي استقرّ على الإدانة والشجب وتفضيل خيار الأمن الجماعي المتواطئ مع مصالح الكيان، عبر رفع قضايا الاعتداء الإسرائيلي إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أعطى الكيان الإسرائيلي مساحة من الأمان التي أجاد استغلالها، في محاولة إظهار أيّ رد فعل خارج عن المألوف العربي الرسمي كفعل مارق يستدعي الإدانة والشجب الدوليين.
أما الأراضي التي احتلّها الكيان الإسرائيلي منذ نكبة 1948، فقد كان مصيرها الضمّ أو الانسحاب بموجب اتفاقية هدنة أو "سلام"، تبعاً للحاجة الاستراتيجية الإسرائيلية؛ فنتيجة الحاجة إلى "السلام" مع مصر، التي كانت بمنزلة قلب العالم العربي، ارتضى الإسرائيلي الانسحاب من سيناء بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد".
وبموجب هذه الاتفاقية، تم تثبيت حال "السلام" بين الدولتين وتحييد مصر في مقابل الانسحاب. أما في مناطق أخرى، وبسبب الأهمية الاستراتيجية للأراضي التي احتُلت، عمد الكيان الإسرائيلي إلى ضم هذه المناطق وفصل بين إمكانية توقيع اتفاقية "سلام" مع الدولة صاحبة السيادة والانسحاب من أراضيها، كما هي حال الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أو الجولان السوري.
بشكل عام، استطاع الكيان الإسرائيلي أن يدفع أكثر الدول العربية، في سعيها لاسترجاع الأراضي المحتلة، باتجاه المسار الذي يناسبه، إذ رسخ في الوعي الرسمي العربي قناعة تجعل التفاوض تحت سقف قرارات الشرعية الدولية خياراً وحيداً يمكن الركون إليه، فالدعم الدولي الذي استحصل عليه الكيان الإسرائيلي منذ نشأته كرس يأساً رسمياً عربياً من إمكانية استرجاع الحق العربي بالقوة أو دفع الكيان إلى التخلّي عن سلوكه العدواني على الأقل.
بالطبع، لم تكن الدولة اللبنانية بمعزل عن هذا المسار، إذ إنها لم تتخذ قرار رسمياً بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ووقعت في فخ التفاهمات المسقَطة دولياً، إذ كان اتفاق 17 أيار نسخة معبرة عن اتفاق يراعي المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية على حساب السيادة اللبنانية.
وفي هذا الإطار، كرّست المقاومات اللبنانية شرخاً عميقاً بين المسار الرسمي اللبناني والمسار الشعبي، إذ نجحت في إسقاط هذا الاتفاق، بعد أن كانت قد دفعت الكيان الإسرائيلي إلى الانسحاب من بيروت وأكثر الأراضي التي احتلها، والاكتفاء بشريط حدودي يشكل منطقة عازلة بين قوة المقاومة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وإذا كانت هذه المرحلة قد حددت شكلاً من أشكال الردع، إذ تمَّ إلزام الكيان بأن يسقط من حساباته فكرة ضمّ أراضٍ لبنانية إليه، وعدم التفكير في إنشاء مستوطنات تكرس أمراً واقعاً يمكن الاعتداد به لاقتطاع أراضٍ لبنانية، إذا ما تم توقيع اتفاق "سلام" مع الدولة اللبنانية، فإن المقاومة الإسلامية التي بدأت تُظهر فعاليتها وتؤكد إطارها التنظيمي رسمت خطوط المرحلة اللاحقة من الصراع، بحيث ألزمت الكيان الإسرائيلي بالتعاطي معها ككيان لا يعبّر عن مبادرات عفوية.
خلال جولات الصّراع التي يمكن تمييزها عن العمليات النوعية المتكررة التي قد تكون متباعدة زمنياً، عمدت المقاومة الإسلامية إلى فرض شروط تتخطى فكرة وقف إطلاق النار المتبادل بين الطرفين، فتحييد المدنيين وتثبيت معادلة قصف المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة إذا تعرضت قرى الجنوب لقصف إسرائيلي ألحقته المقاومة بتكريس حتمية الانتقام لعمليات الاغتيال التي تطال قادتها، من خلال اغتيال قادة إسرائيليين وعملاء.
وفي هذا الإطار، دفعت المقاومة ثمناً كبيراً لتكريس هذه المعادلات، إذ إن الرد على اغتيال قادتها كان ثمنه قاسياً جداً في أحيانٍ كثيرة، إضافةً إلى أن الإصرار على تحييد المدنيين كان يتحقق أحياناً بعد إطالة أمد المعارك، بما يكلف بيئة المقاومة غالياً.
أما بعد التحرير، فقد استطاعت المقاومة أن تفرض نفسها كإطار مؤسَّساتي يمكن من خلاله أن تلزم الكيان باعتماد سلوك محدد ضمن أطر الاعتراف بكيانها ودورها في حماية سيادة لبنان.
ومن خلال تأكيد شرعية المقاومة ولبنانيتها عبر نص البيانات الوزارية المتعاقبة، ودورها المحوري في الدفاع عن لبنان، ذهبت المقاومة بعيداً في بناء إطار الردع الضروري لحماية لبنان، إذ كرست لدى الإسرائيلي قناعة بحتمية دورها ونهائيته وعدم إمكانية الالتفاف عليه.
وفي هذا الإطار، استطاعت المقاومة أن ترتقي بدورها الردعي، متخطية عقبات داخلية وخارجية، وتحولت من قوة تواجه الاعتداءات الإسرائيلية وفق مبدأ رد الفعل إلى قوة استراتيجية قادرة على المبادرة وتهديد الكيان ضمن إطار المحافظة على الحقوق والسيادة.
وإضافةً إلى دورها الدفاعي الذي يُفترض تفعيله عند أي اعتداء حصراً، عمدت المقاومة بالتوازي إلى مراكمة أدوات قوة تسمح لها بممارسة هذا الدور الاستراتيجي. ولأنَّ هذا الدور الذي نجحت في أدائه تخطى خطوطاً حمراً وضعها الإسرائيلي، ومن خلفه القوى الغربية، فإنها واجهت جبهة متعددة الأطراف بهدف تحجيم دورها وإقصائها عن ممارسة الدور الذي أرادته لنفسها.
وفي سبيل تحقيق هذا الردع، كان على المقاومة أن تستوعب بعض الضربات التكتيكية التي وجهها الكيان الإسرائيلي إلى بعض بنيانها، والتي أراد من خلالها تعطيل الدور الاستراتيجي لهذا البنيان، عبر دفع المقاومة إلى تبني ردّ فعل غرائزي يفقدها فعالية الغموض الاستراتيجي الذي تعتمده.
وبناءً عليه، كان على المقاومة، خلال أكثر من 25 عاماً، أن تدخل في معارك متعددة ذات طبيعة مختلفة عن الحروب التقليدية التي خاضتها في لبنان وخارجه، من أجل أن تراكم من نقاط القوة والغموض ما يمكّنها من بناء استراتيجيتها الردعية التي أثبتت المرحلة الحالية أهميتها.
إن النمطية التفاوضية التي قيدت الدولة اللبنانية نفسها بها، عبر انكشاف أوراقها التفاوضية والتمسك بوساطة الولايات المتحدة الأميركية في موضوع ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، أثبتت عجزها عن الحفاظ على حقوق لبنان.
الكيان الإسرائيلي المستخفّ بالدولة اللبنانية وخيارها التفاوضي وقف عاجزاً عن فك شيفرة خيار المقاومة في الدفاع عن الحقوق اللبنانية، إذ إن معركة طويلة دارت رحاها بين الحروب التي وقعت بين الطرفين أنتجت معادلة ردعية يصعب على الكيان الإسرائيلي كسرها أو تخطّيها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.