بوتين في أوكرانيا.. عالم جديد على أنقاض فلسفة فوكوياما
لا يمكن اختصار تأثيرات الخطاب الأخير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك عن الدولة الأوكرانية ضمن حدود استكمال آلية دخولهما في نطاق العلاقات الدولية أو تصنيفه كأحد أوجه الرد على سلوك الدولة الأوكرانية في تعاطيها مع الجارة الروسية، فالرئيس الروسي متيقّن من أنَّ هذا الاعتراف لن يقدم لهاتين الدولتين أيّ مزايا في علاقاتهما الخارجية، إضافةً إلى أنَّ عملية الانفصال لم تكن وليدة الأيام الأخيرة، حتى نربط بينها وبين إضعاف الموقف الأوكراني.
وبناءً عليه، إنَّ تحليل مرتكزات هذا الخطاب يؤكّد استهدافه الوعي الجماعي في روسيا وجوارها، إضافةً إلى العالم الغربي والعالم أجمع، ضمن إطار التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية المحكومة بشيء من التوازن بين الشرق والغرب.
بالعودة إلى نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، يمكن القول إنَّ انهيار الاتحاد السوفياتي لم يكن حدثاً عادياً أو متوقعاً، إذ إنَّ القادة في الولايات المتحدة صُدموا من سرعة التحولات التي أدّت إلى انهيار الثنائية القطبية عبر اختفاء الاتحاد السوفياتي عن الخريطة الدولية.
وإذا كانت الأحداث التي سبقت الانهيار دفعت الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف إلى تأكيده أنَّ ما حصل يندرج في خانة المؤامرة التي قادها بوريس يلتسين وبعض قادة البيروسترويكا السابقين، فإنَّ أي إشارة أو محاولة، تنظيرية على الأقل، لتفسير ما حدث، لم تصدر عن النخبة الروسية.
وفي مقابل هذا الصمت الذي أمكن تصنيفه بالاستسلام، فإنَّ مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية والأوروبية أتخمت الوعي البشري بعدد غير قليل من النظريات والفرضيات المؤكّدة لانتفاء أيِّ إمكانية لإعادة إنتاج نظرية موازية قابلة للحياة في ظلِّ هيمنة الليبرالية العالمية على النظام الدولي.
إنّ "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صراع الحضارات" لهنتنغتون شكّلا الإطار الفكري لمشروع المحافظين الجدد بعد العام 2001. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد شهدت وصول عدد من الرؤساء غير المحسوبين على المحافظين الجدد، مثل باراك أوباما أو دونالد ترامب أو الرئيس الحالي جون بايدن، فإنَّ الفلسفة الحاكمة للسياسات الأميركية الداخلية والخارجية لم تخرج عن الإطار الَّذي حددته بعض مراكز الأبحاث، مثل "أميركان أنتربرايز" ومعهد "هادسون" أو مؤسسة "هيريتيج".
وفي الوقت الذي اعتقدت هذه الفلسفة أنَّ الولايات المتحدة الأميركية، بقوتها وبنائها الفكري والفلسفي، قادرة على التعامل مع الدول التي تشكل تهديداً لمشروع الهيمنة المفترض، بطريقة ترتكز على التهديد وإمكانية إسقاط أنظمتها، فإن هذا السلوك تُرجم تعميماً لسياسة الحظر وفرض العقوبات، وصولاً إلى إمكانية الاجتياح العسكري، من دون أي اعتبار لمنظومة الأمن الجماعي العالمي المتمثّلة بالأمم المتحدة.
لأكثر من 20 عاماً، نجحت الولايات المتحدة الأميركية في المحافظة على إرثها، واستطاعت تمتين مشروعها للهيمنة العالمية عبر الجمع بين إطار أيديولوجي جاذب ومجموعة من أدوات القوة الفاعلة، كحلف شمال الأطلسي والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في شرق أوروبا ووسط آسيا، إضافةً إلى استغلال الاتحاد الأوروبي عبر دمجه بالمنظومة الدفاعية الأميركية وعدم تمكينه، بسبب العلاقات المميزة بينها وبين دول أوروبا الشرقية، من تحقيق استقلاله الأمني.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد سلَّم بعدم إمكانية خلق نوع من الاستقلالية، إلا تحت سقف الرضا الأميركي، فإنَّ الدولة الروسية الممتدة إلى الشرق من أوروبا بمساحة تكاد تقارب ضعفي مساحة الاتحاد، ما زالت متعلقة بجذور الماضي القيصري وإرث الاتحاد السوفياتي، فالدولة الروسية الحديثة رسمت منذ العام 2008 إطاراً لعلاقاتها الدولية، محكوماً بإطار التخلّص من آثار مرحلة الانكسار التي جسدها بوريس يلتسين لأكثر من 8 سنوات منذ العام 1991، ومرتكزاً على رؤية بوتينية قوامها القومية، وإعادة الاعتبار إلى الكنيسة الأرثوذكسية، واستعادة مجال حيوي مناسب لما يعتبره الشعب الروسي متوافقاً مع قوته ومقدراته.
وبناءً عليه، إنَّ السياق الذي حكم السياسات الروسية في جوارها القريب هو رفض الانصياع إلى الإملاءات التي فرضتها الولايات المتحدة عبر تمدّد حلف الناتو، والمساومات التي جهدت لتفرضها على الدولة الروسية مقابل تطبيع علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، إذ إنَّ ردّ الفعل الروسي على محاولات جورجيا، ومن بعدها أوكرانيا، الانغماس في مشروع الناتو الهادف إلى التمركز على حدود روسيا، لم يكن مختلفاً عن رؤيتها لخطّ السيل الشمالي وضرورة التحرر من الابتزاز الأوكراني المدعوم أميركياً.
وإذا أمكن القول إنّ رد الفعل الروسي على الاستفزازات الأوكرانية جاء مشابهاً للموقف الروسي من جورجيا في العام 2008، فإنَّ الاختلاف بينهما أمكن رصده في خطاب الرئيس الروسي الأخير، فإذا كان الرئيس الروسي قد أعلن في مؤتمر ميونيخ للأمن في العام 2007 أنّ الأحادية الأميركية لم تعد ممكنة، وأنَّ الآليات التي يحاول الغرب فرضها، بما يناقض آلية عمل الأمم المتحدة، ستهدّد السلم والأمن الدوليين، إضافةً إلى تحذيره من مخاطر تمدد حلف الناتو إلى الشرق، فإنَّ الخطاب الذي سبق العملية العسكرية في شرق أوكرانيا أضاف إلى هذه الثوابت مرتكزاتٍ يُفترض أن تجسد في العقل الجماعي الروسي أيديولوجية ضرورية لمشروع روسيا الجديد.
وعن سمات هذا المشروع، يمكن بسهولة ملاحظة ميل الرئيس الروسي إلى القومية الروسية التي سبقت شمولية الاتحاد السوفياتي، إذ إنه يعتبر أنَّ المرحلة الحالية لا يمكن إدارتها إلا من خلال وحدة قومية يعتبرها ضرورية وحيوية لمواجهة ليبرالية النظام العالمي الحالي، إضافة إلى عودته إلى الأصول الدينية للكنيسة الأرثوذكسية التي تشكل جزءاً من البناء القومي للمجتمع الروسي التقليدي.
على مستوى الجوار، إنّ جلّ ما يهدف إليه بوتين يتمحور حول تشييد بناء أوراسيا والفضاء الأوراسي الذي يناسب خصوصيات الموقع الروسي الذي يتداخل في القارتين الآسيوية والأوروبية، ويقدر على ضمان موقع روسيا كمنافس للأحادية الأميركية.
وإضافة إلى دول الجوار الروسي، شكَّل هذا الخطاب رسالة لحلفاء روسيا في الصين والجمهورية الإسلامية وباقي الدول، مفادها أنَّ اللحظة حانت للانتقال إلى مستوى المواجهة المباشرة مع الحضارة الغربية التي أرخت بثقلها على العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية والقوى الأوروبية، فقد أظهرت أفعال بوتين الأخيرة عقم هذه المنظومة في مواجهة التحديات التي تفرض نفسها على أحاديتها المترهّلة، فالرد الغربي الوحيد على الهجوم الروسي على أوكرانيا لم يتعدَّ حدود العقوبات الاقتصادية ضد بعض الكيانات والشخصيات الروسية، من دون إبداء أي استعداد لمشاركة أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي.
إذاً، ومن خلال تقدير المعطيات المتوافرة عن الفعل الروسي، ورد الفعل الغربي بأطرافه الأميركية والأوروبية وأدواته الأطلسية، يمكن القول إنَّ النموذج الغربي الذي استفرد بالعلاقات الدولية منذ العام 1990، والذي استطاع أن يزرع في الوعي الجماعي العالمي نهاية التاريخ، عبر استحالة ظهور منظومة من القيم الجديدة القادرة على مواجهة منظومة الأفكار الديمقراطية الليبرالية، التي تشكّل، بحسب زعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، نهاية التطور الأيديولوجي، وقع ضحية إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على رفض الإجماع الوهمي حوله، وإمكانية إيجاد البديل النظري الصالح للتطبيق، والقادر على تحقيق نتائج أفضل على مستوى تعدّد الأقطاب والأمن الجماعي.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.