مفاوضات جنيف بين الولايات المتحدة وروسيا.. تأكيد دبلوماسية الصراع!
لم يكن توجّه حلف شمال الأطلسي في قمّة بوخارست لفتح الباب أمام انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه منفصلاً عن الرغبة الأميركية في تثبيت خطوط التماس مع الدولة الروسية على حدودها، بما لا يعطيها أيّ مساحة أو مجال حيويّ يسميه الجانب الروسي "دول الجوار الروسي".
وإذا كان انهيار الاتحاد السّوفياتي قد شكّل علامة فارقة في أواخر القرن العشرين، إذ ثبتت الولايات المتحدة هيمنتها كقطب أوحد، وسوّقت لثقافة ليبرالية تُرجمت في دول أوروبا الشرقية تحت مسمى "الثورات الملونة"، فإنَّ رياح القرن الواحد والعشرين لم توافق اتجاه المشروع الأميركي الساعي إلى إطباق الهيمنة على أوروبا بشرقها وغربها، إذ استقرَّ القرار الروسي في العام 2008 على إخضاع جورجيا بالقوة العسكريّة واحتلالها، ثم اتخاذ قرار باستعادة الدولة الروسية شبه جزيرة القرم في العام 2014.
وفي قراءة للقرار الروسي باستخدام القوة العسكرية ضد أيِّ تهديد لمجال الدولة الحيوي، استقرت السياسة الأميركية في تلك المرحلة ضمن إطار التنديدات المترافقة مع سياسات العقوبات على الشخصيات والكيانات الروسية وتفادي أيّ قرار بتصعيد المواجهة، نتيجة توازن القوة المرتكز على أساس الردع النووي والصواريخ الباليستية الروسية القادرة على أن تطال أهدافها ضمن القارة الأوروبية، وصولاً إلى أراضي الولايات المتحدة الأميركية، بما يجعل الحرب بين الطرفين، الأميركي والروسي، في خانة الأمر المستحيل حدوثه.
ونتيجة لهذا التوازن، عمدت الولايات المتحدة إلى فرض تواجدها في كلِّ الساحات التي شكَّلت أهمية استراتيجية للدولة الروسية الحديثة، إذ امتدّ التماس الروسي الأميركي من جورجيا وأوكرانيا إلى سوريا وآسيا الوسطى، وأخيراً كازاخستان.
وإذا كانت السّاحة السّورية تشكّل ملعباً مريحاً للقوات الروسيّة التي استطاعت أن تفرض رؤيتها على مسار الصراع فيها، فإنّ آسيا الوسطي وجورجيا وأوكرانيا فرضت على الجانب الروسي ضرورة مقاربة ملف العلاقة مع الولايات المتحدة وفق إمكانية المخاطرة بنسف أيّ إمكانية لعلاقة طبيعية بينهما، إذ يُصنف في خانة المرفوض إجراء أيّ مساومة تضع الأمن القومي الروسي مقابل علاقة طبيعية مع الولايات المتحدة الأميركية.
يُفترض الإشارة في هذا المجال إلى أنَّ الهدف الأميركيّ الحقيقي من ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي، أو تعريض الحكم في بيلاروسيا، وحالياً في كازاخستان، للاهتزاز، لم يكن مرتبطاً بمفاهيم الديمقراطية والحرية أو الدفاع عن شعوب هذه الدول ضد أيّ خطر وجودي، بل إنَّ السياق الأميركي المعتمد في إدارة ملف الجوار الروسي يفترض الربط بين ما يحدث في أوكرانيا وما هو مرسوم لجورجيا وبيلاروسيا وكازاخستان من جهة، وواقع السياسات الأميركية في آسيا الوسطي من جهة أخرى؛ فالاحتلال الأميركي لأفغانستان أو القواعد العسكرية التي حرصت الولايات المتحدة على نشرها في طاجيكستان وأوزبكستان وغيرها، يدلان على وجود إصرار أميركي على تفادي تأثير سقوط الأحادية الأميركية على خارطة النفوذ العالمي.
من هذا المنطلق، إنّ الهدف الأساسيّ للاستراتيجيات الأميركيّة يستند إلى فرضيتين، تركّز الأولى على تكريس شيطنة الدولة الروسية في الوعي الجماعي العالمي، وتقوم الأخرى على محاولة جرّ الدولة الروسية إلى التفاوض والحوار بغية تحقيق تنازلات مرتبطة بتطبيع علاقاتها الدولية.
ووفق كلتا الفرضيتين، تظهر الحاجة الأميركية إلى توتير الميادين المحيطة بالدولة الروسية، عبر إثارة ثورات في الدول الحليفة لروسيا، أو فرض عقوبات على أيّ مشروع قد يساهم في تطبيع العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية، أو تمتين أواصر العلاقات الأميركية مع الجوار الروسي، من خلال تكرار المناورات العسكرية المشتركة معها وإثارة سباقات تسلّح، بما يعمّق هوّة خلاف هذه الدول مع الدولة الروسية.
واللافت أنَّ الولايات المتّحدة الأميركية، بالتوازي مع إثارة سباقات التسلّح أو تشجيع دول الجوار على الثورة على الأنظمة الصديقة للدولة الروسية، لا تتوانى عن دعوة الدولة الروسية إلى الحوار والتفاوض، والتأكيد على تبنّي الدبلوماسية خياراً وحيداً صالحاً لمعالجة إشكاليّة العلاقة مع الدولة الروسية.
وإلى جانب الكثير من حزم العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على الدولة الروسية وأشخاصها وشركاتها، وعدد غير قليل من المسائل التي أرخت بثقلها على الأمن الجماعي العالمي، فإنّ لقاءات القمة بين الرؤساء الأميركيين والروسيين لم تتوقّف منذ العام 1990، إضافةً إلى تسجيل عدد كبير من اللقاءات التي عُقدت لمعالجة قضايا مختلفة، مثل انتشار الأسلحة النووية وإشكالية حلف شمال الأطلسي والحدّ من التسلّح وغيرها من المواضيع.
وبناءً عليه، إنّ الولايات المتحدة الأميركية تحاول بواقعية التقليل من تأثيرات انتفاء الأحادية القطبية، عبر نوع من التكتيك الاستراتيجي الهادف إلى مراكمة الضغط على الدولة الروسية، من خلال حثّها على معالجة عدد غير قليل من الملفات ذات التأثير الاستراتيجي، ودفعها إلى التّسوية، عبر إقناعها بمساومة تجعلها تتنازل عن بعض الملفات مقابل مكاسب معيّنة في ملفات أخرى.
وللدلالة على هذه الخلاصة، يمكن الإشارة إلى كثرة الأحداث التي واجهتها الدولة الروسية، إذ ترافقت العقوبات المتلاحقة على خطّ السيل الشمالي لنقل الغاز إلى أوروبا وتجميد العمل به مع تسعير الوضع في أوكرانيا، ولاحقاً في كازاخستان، إضافةً إلى قضية العميل الروسي السابق سكريبال، وما تلاها من تجاذبات روسية أوروبية وحزم غير محددة من العقوبات الأوروبية على الدولة الروسية.
في المقابل، لم تلتزم الدولة الروسية الصَّمت في مواجهة مشروع محاصرتها داخل إقليمها، إذ إنَّها سارعت بعد تحررها من عقدة انهيار الاتحاد السوفياتي إلى فرض أسلوب جديد في مقاربة الملفات الخلافية. وبدلاً من الغرق في محاولة الدفاع عن نفسها عبر محاولة فكّ الاشتباك مع القوى الغربية، بما يفترض التنازل والتزام السياق العام المقبول لدى هذه القوى، عمدت إلى بناء شبكة من التحالفات التي أثمر بعضها أحلافاً ومنظّمات، على شاكلة مجموعة "البريكس" أو معاهدة شنغهاي أو منظمة الأمن الجماعي الأوراسية.
من ناحية أخرى، اتخذت الدولة الروسية قرارات استراتيجية تتعلّق بتوطيد علاقاتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع عدد من الدول ذات الأهمية الجيوبولتيكية، وفق المفهوم الروسي، كعلاقاتها مع الجمهورية الإسلامية أو سوريا أو حتى الصين.
ولذلك، وفق التوازن الدولي الذي فرضت مساره تحالفات الدولة الروسية منذ ما بعد العام 2003، والممكن وصفه بالمتطرف، يمكن استشعار مدى صعوبة الوصول إلى المساحة المشتركة للأزمة لنزع فتيل التوتر بين الطرفين الأميركي والروسي.
وبناء عليه، يصبح مفهوماً التصلّب الروسي الأخير خلف مطالب تعود إلى العام 2008، من حيث الإصرار على سحب ملفّ دخول أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي، إضافةً إلى تكرار التصريحات الروسية المحذّرة من نتائج السلوك الأميركي المهدد للأمن القومي والاستراتيجي الروسي، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة بعد أحداث كازاخستان.
أما المحادثات الأخيرة التي جمعت الطّرفين الأميركي والروسي، فمن الطّبيعي أن لا تتخطى حدود ترجمة القرار الأميركي والروسي بالبحث عن حلّ دبلوماسي لأزمة العلاقات بين البلدين، من دون أيّ أمل بنتيجة سريعة تضمن خروجهما من دائرة العداء إلى دائرة التعاون.
وبالتالي، إنّ تحليل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، بعد 7 ساعات من النقاشات، يظهر أنَّ مساحة التشاؤم الروسية اتّسعت، لتُدخل العالم ومناطق التّماس في دائرة التصعيد المربك لكلا الطرفين، ضمن حدود ما يُعرف نظرياً بالأزمة الدبلوماسية.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.