جولات زيلينسكي الأخيرة.. استنساخ عبثيّ لاستراتيجية بوش الإبن قبل احتلال العراق
على الرغم من التصريح الأخير لوزير الخارجية الأوكراني حول ارتباط جولة فولوديمير زيلينسكي الخارجية بجمع السلاح الضروري للهجوم الأوكراني المضاد والكبير الذي لم تتوقف أوكرانيا عن التسويق له إعلامياً، رغم انتفاء وجود أي إشارات عملية لإمكانية حدوثه، فإن واقع الاستعراضات المكوكية التي يحرص عليها تدلّ على استراتيجية تهدف في الحد الأدنى إلى شيطنة روسيا وتقديم الدلائل على عدوانيتها، بما يستوجب حكماً، بحسب زيلينسكي، ضرورة عزلها ومقاطعتها من جهة، وجعل دعم أوكرانيا مادياً وعسكرياً واجباً أخلاقياً يرتبط بحفظ السلم والأمن الدوليين من جهة ثانية.
بعد أكثر من عام على انطلاق العملية العسكرية الروسية التي تمحور هدفها الأول حول حماية الدونباس، والتي يمكن توصيفها بالأكثر فتكاً في العصر الحديث، نظراً إلى ما أدت إليه من تدمير للبنية التحتية العسكرية والحيوية الأوكرانية، إضافة إلى الخسائر البشرية الأوكرانية التي تجاوزت في العام الأول للحرب مئة ألف قتيل، بحسب وسائل الإعلام الغربية، مع ما يعنيه هذا الاعتراف من حتمية تقدير عدد الجنود الأوكران القتلى بأكثر من ذلك بكثير، إذ يحرص الغرب على عدم إظهار الحجم الحقيقي للخسائر مراعاةً لمعنويات الشعب الأوكراني وللرأي العام الغربي المتململ من آثار الدعم الغربي لأوكرانيا على واقعه المعيشي، يمكن القول إنَّ أي عمل عسكري أوكراني مضادّ لن يحقق النتيجة التي يرجوها زيلينسكي.
لذلك، يمكن حصر النتائج التي قد يحققها من وراء جولته الخارجية في إطار السلوك النمطي الغربي الذي يسعى دائماً إلى تكريس صورة نمطية سيئة للطرف المستَهدَف.
وإذا انطلقنا من زيارته إلى فنلندا ومشاركته في قمة دول الشمال الخمس وتركيزه على انضمام فنلندا حديثاً إلى حلف شمال الأطلسي وضرورة حصول أوكرانيا على هذه العضوية، باعتبارها أهم ضمانة أمنية يمكن تحصيلها، فإنَّ ما حقّقه زيلينسكي من هذه الزيارة لم يتعدَّ أهمية الصورة التذكارية إلى جانب قادة هذه الدول.
إن المساعدات العسكرية التي تلقى وعوداً بشأنها لن تزيد على ربع ما قدمته سابقاً. أما في مساره الذي شمل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، فإنَّ المساعدات العسكرية التي حصل عليها لم تكن بالمستوى الذي توقعه، على الرغم من أهميتها.
وإذا كان من الممكن أن نحلّل خلفيات هذا الدعم المستمر، فإنَّ ذلك يرتبط بإظهار الالتزام الغربي بالوقوف إلى جانبه دون أن يؤثر ذلك في قواعد ميزان القوى الذي يفترض عدم التعرض للأراضي الروسية.
وبناء عليه، فإن الدعم الذي حصلت عليه أوكرانيا لم يكن مرتبطاً بالزيارة بالقدر الذي تعبر تلك الدول من خلاله عن التزامها بالمسار الذي التزمت به سابقاً.
لذلك، يمكن التعرُف إلى الإطار الحقيقي لجولات زيلينسكي من خلال هولندا وخطابه في محكمة العدل الدولية الذي جاء بعنوان "لا سلام من دون عدالة لأوكرانيا".
وإذا ربطنا هذه الزيارة بلقائه البابا فرانسيس، ومن ثم حضوره قمة جامعة الدول العربية في جدة قبل توجهه إلى هيروشيما للمشاركة في قمة السبع الكبار، فإنَّ ذلك سيدلّ على إستراتيجية محددة يهدف زيلينسكي من ورائها إلى أداء دور المحرض على روسيا وإظهار نوع من التوافق الدولي حول مخاطر عمليتها في أوكرانيا.
إنّ محاولة الحصول في جولة واحدة على دعم القضاء الدولي الجنائي والسلطة الدينية الأعلى مسيحياً، إضافةً إلى الدعم السياسي الذي جسّده خطابه في قمة جامعة الدول العربية ومحادثاته مع قادة السبع في هيروشيما، تؤكد مسعاه لتحويل الصراع في أوكرانيا، نظرياً على الأقل، إلى حرب عالمية بين معسكرين، بما يضمن عدم إمكانية حدوث أي تسوية تجعل أوكرانيا خاسراً وحيداً.
يشبه حراك زيلينسكي في تفاصيله الحراك الأميركي الذي نشط قبل احتلال العراق عام 2003، إذ إنّ الإدارة الأميركية في تلك المرحلة لم تألُ جهداً لحشد الدعم العالمي وإظهار إسقاط النظام في العراق واجباً أخلاقياً دولياً؛ فقد عمدت الإدارة الأميركية في تلك الفترة إلى تضليل الرأي العام الأميركي والعالمي، مستفيدةً من عامل الصدمة الجماعية التي سببتها أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
إضافةً إلى ذلك، استخدمت الإدارة الأميركية سياسة التحريض من أجل بثّ الخوف في نفوس الشعب الأميركي والرأي العام العالمي، المحكوم أصلاً للأيديولوجيا الأميركية التي سيطرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أما على المستوى الدولي، فقد مارست سياسة الترهيب والترغيب، إذ تعرضت الدول التي لم تلتزم بالمشروع الأميركي للترهيب واتهمت بحماية نظام سبق للولايات المتحدة أن صنّفته ضمن محور الشر.
وفي هذا الإطار، عمل الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن على تظهير الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان على أنها صراع بين قوى الخير وقوى الشر، ولم يتوانَ عن تشبيها بالحروب الصليبية، لما لهذا التشبيه من رمزية لدى الشعوب الغربية.
من ناحيته، يظهر الرئيس الأوكراني التزاماً واضحاً بالأسلوب الأميركي في تجييش العالم ضد نظام يعتبره إرهابياً؛ يخرق قواعد القانون الدولي، ويهدد السلم والأمن الدوليين، مستفيداً من نشاط المنظومة الإعلامية الغربية التي عملت على إظهار العملية العسكرية الروسية كفعل بربري لا يراعي أدنى صفات الإنسانية.
في تحليل زيارته لبابا الفاتيكان، على سبيل المثال، وبالنظر إلى انعدام أي إمكانية لتحصيل دعم مادي أو عسكري منه، يمكن التقدير أنّ هدفه لا يتخطى إطار تبني قضيته، بما يعنيه هذا التبني من شرعية معنوية مصدرها سفير السلام في الأرض.
وإذا حاولنا تقدير جدوى زيارته جدة وإلقائه خطاباً أمام قادة مجموعة من الدول التي لا يمكن اعتبارها متأثرة بالأزمة في أوكرانيا بطريقة مباشرة، ويبدو أنها تلتزم بمجملها النأي بالنفس، مع استثناء سوريا، بسبب تشابك علاقاتها بروسيا من جهة، والغرب من جهة أخرى، فإن أقصى ما يمكن أن يحققه لا يتعدى نجاحه في عرض قضيته من منبر مؤتمر القمة، مع التساؤل عن مدى الأهمية التي قد تشكلها هذه القمة.
أما بالنسبة إلى مشاركته في قمة السبع التي اختتمت أعمالها في هيروشيما في 21 أيار/مايو الحالي، فيمكن طرح سؤال عن الإضافة التي حقّقها، إذ إنّ هذه الدول هي التي تدير المعركة في وجه روسيا.
وإذا تطرّقنا إلى العقوبات التي أقرتها المجموعة أخيراً، فإنها لا ترتبط بحضور زيلينسكي، إنما يمكن تظهيرها ضمن إطار سلسلة من العقوبات التي تستهدف روسيا والصين باعتبارهما دولتين مهددتين للنظام العالمي الذي تمثله هذه القوى.
إضافةً إلى ذلك، يبقى أن نشير إلى أن الواقع الذي ساعد الدبلوماسية الأميركية التي نشطت قبل احتلال العراق، حين تكرس التفوق الأميركي والأحادية القطبية في تلك المرحلة نتيجة غياب أي منافس، لم يعد قائماً في يومنا هذا؛ فالأحادية الأميركية تعثرت منذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق، وبعدها من أفغانستان.
وإذا كانت مرحلة ما قبل احتلال العراق قد حُكمت بعاملَي الخوف والحذر من أي محاولة للاعتراض على السياسات الأميركية، فإن المرحلة الحالية تشهد جرأة تتخطى مجرد الاعتراض، لتصل إلى حد المجاهرة بالعمل على إسقاط الأحادية بكل أدواتها.
بناء عليه، يمكن القول إنَّ الاستراتيجية التي يعتمدها زيلينسكي بالعمل الحثيث على شيطنة روسيا ومحاولة تجنيد العالم خلف أوكرانيا لن تقدم له ما يمكنه من العودة إلى مرحلة ما قبل العملية العسكرية الروسية التي انطلقت في 24 شباط/فبراير 2022، وإن أقصى ما يمكن تحقيقه لا يتعدى إمكانية جعل العالم كله معنياً بنتائجها.
لقد باتت الدول التي تظهر دعمها لزيلينسكي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، تعي قدراتها بعدم إمكانية مواجهة روسيا بطريقة مباشرة. وإذا قاربنا ما قد تهدف إليه واقعياً، فإن ذلك لن يتخطى حدود استنزاف روسيا ودفعها إلى تسوية تضمن لهذه الدول عدم تجرع مرارة إعلان الهزيمة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.