محدِّدات واقعية لليوم التالي بعد الحرب على غزة
منذ انطلاق العدوان العسكري على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، ظهر واضحاً أن الغايات الإسرائيلية تتخطى إطار رد الفعل على الضربة القاسية التي تلقاها غلاف غزة، لناحية قدرة المقاومة على تخطيط وتنظيم أكبر عملية أمنية عسكرية معقدة تخطت تعقيدات الجدار التكنولوجي الذي كانت وظيفته الأساسية، بحسب بيني غانتس، الفصل بين "حماس" وسكان المستوطنات، لتحقق أهدافاً ذات طبيعة استراتيجية.
فمن خلال الإصرار على تحقيق هدف القضاء على حركة المقاومة الإسلامية، "حماس"، ومحاولة تحرير الأسرى من دون مقابل، مع الحديث بالتوازي عن ضرورة فتح معبر رفح، والعمل على توجيه المدنيين تحت ضغط القصف والمجازر إلى مغادرة القطاع والتوجه نحو سيناء، يمكن التدليل على محاولة إسرائيلية لتغيير واقع القطاع على نحو يخدم استراتيجية الكيان الأمنية، والتي عبر عنها رئيس الحكومة السابق إسحاق رابين، حين قال: "أتمنّى أن أستيقظ يوماً من النّوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر".
انطلاقاً من أن واقع القطاع في مرحلة ما قبل طوفان الأقصى لم يكن ملائماً للولايات المتحدة الأميركية، بحيث تقوم استراتيجيتها في المنطقة على ضرورة ترتيب الأمن الإقليمي بالارتكاز على خيار التطبيع الذي يفترض ضرورة إلغاء الـ"لا" الفلسطينية، والتي يجسدها القطاع، اتخذت في بداية العدوان على غزة موقفاً يتخطى دعم الكيان ليصل إلى إدارة المشروع، عبر التوجيه والتحريك للمستويين السياسي والعسكري في الحرب، بالإضافة إلى حشد الدعم الدولي ومنع إدانة الكيان من خلال مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى.
يمكن أن نلاحظ أنّ السلوكين الأميركي والإسرائيلي يهدفان إلى الإيحاء في حسم الموقف في غزة من دون السماح لأي طرف آخر بأن يمتلك أي إمكان للتأثير، بحيث يعمدان إلى الإيحاء في حتمية تحقيق أهدافهما في غزة، ويعملان على توجيه الاهتمام العالمي إلى البحر الأحمر وجنوبي لبنان. فما ظهر، خلال الفترة الماضية، من محاولات غربية لممارسة ضغوط على السلطة اللبنانية وحزب الله، من أجل ردع الأخير عن استكمال مشروعه لمساندة غزة، تحت عنوان ضرورة تطبيق القرار 1701 وتعديل آليات تطبيقه، على نحو يلائم متطلبات الأمن الإسرائيلي، معطوفاً على الجهود المبذولة لتشكيل قوة بحرية من أجل "حماية الملاحة في البحر الأحمر"، من دون أن ننسى الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية على السلطات العراقية للحد من هجمات الفصائل المقاومة على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، أمرٌ يوحي في تحقيق الطرفين الأميركي والإسرائيلي شروطَ إدارة المعركة من جهة، وإظهار مستوى عالٍ من التنسيق والقدرة على الحسم، من جهة ثانية.
من خلال هذا التوجه، أي الإصرار على إعلان الجهد المشترك المبذول لترتيب أوضاع القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، بالتوازي مع الحديث عن وضع تصور عملي لمعالجة التهديدات التي تشكلها الجبهتان اليمنية واللبنانية، والتأكيد أنها تطال بالتوازي الأمنين الإسرائيلي والأميركي، يعتقد المتابع أن مسار المعركة الحالية يخدم توجههما لناحية افتراض تمكن جيش الكيان من الحسم في الميدان.
فالحديث عن التباين في وجهات النظر بين الأميركي، الذي يعتقد ضرورة تطوير آليات السلطة الفلسطينية وتمكينها من أن تؤدي دوراً في المرحلة المقبلة، وبين الإسرائيلي، الذي يرفض أي دور فلسطيني في القطاع، ويشدد على ضرورة تكفل جيشه بشأن الترتيبات الأمنية المفترضة، يفترض ضرورة طرح إشكالية على مستوى التنفيذ، بحيث إن أخبار الميدان لا توافق هاتين المقاربتين، بالإضافة إلى أن ما يحدث في البحر الأحمر والعراق وشمالي فلسطين المحتلة يؤكد وجود مؤثرات مستقلة أخرى ستؤدي حتماً دوراً محورياً عند التخطيط لهذا اليوم، أي اليوم التالي بعد الحرب.
حتى الآن، تُبدي المقاومة قدرة على الصمود وتؤكد، من خلال ما يصدر عنها من تسجيلات لقياديّيها ولما يحدث في الميدان، أن الإنجازات التي يدّعي الكيان أنه يحققها على الأرض ليست حقيقية. بالتوازي، ما زالت الساحات اليمنية واللبنانية والعراقية تُظهر ميلاً نحو التصعيد ربطاً بقرارات قيادات المقاومة، وبما لا يلائم التوجه الذي تحرص عليه الولايات المتحدة الأميركية، بحيث يُصِرّ القيّمون في الإدارة الأميركية على إدارة الأزمة الحالية في المنطقة على ضرورة تجنب التصعيد وتفويت أي إمكان لتحويل المعركة الحالية إلى معركة إقليمية.
بالتالي، تصبح أمراً ضرورياً محاولةُ تحليل مرتكزات الموقفين الإسرائيلي والأميركي حتى نقدّر مدى واقعيتها في مقابل ما تؤكد المقاومة تحقيقه في الميدان. فالمعادلة، التي يحاول الكيان الإسرائيلي فرضها من خلال ربط استمرار عمليات القصف الجوي والاستهداف الممنهج للمدنيين وللبنى التحتية بمدى إصرار المقاومة على عدم التنازل عن ثوابتها، بالإضافة إلى الدعم الدولي ـ الإقليمي الذي يمثله الموقف العربي، الذي يُظهر حياداً علنياً بالتوازي مع تواطؤ ضمني تؤكده معطيات التنسيق اليومي مع الولايات المتحدة ومحاولة ادعاء النأي بالنفس تحت عنوان تعريف المعركة على أنها محصورة بين المقاومة الإسلامية، "حماس"، والكيان الإسرائيلي مع الحرص على التزام التوجهات الأميركية، كتسهيل تنفيذ الجسر البري، الذي يُعرف بالممر الاقتصادي عبر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، وصولاً إلى الكيان، أو الموافقة على المشاركة في القوة البحرية، التي تسعى لإنشائها الولايات المتحدة من أجل مواجهة الحصار الذي فرضته حركة أنصار ألله على الكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر، يقابلها، في المقلب الآخر، إصرار فلسطيني على إفشال مخططات الكيان من خلال توجيه ضربات نوعية ويومية إلى القوات المهاجمة وفرض معادلة أمنية عبر الاستهداف اليومي لـ"مدن الكيان" بالصواريخ.
وفي الإطار نفسه، يُفترض ألّا نهمل دور ساحات المقاومة الأخرى، الفاعلة في إشغال الكيان وتكبيده خسائر بشرية وأمنية واقتصادية، تجعل فرضيتي الأمن والردع الإسرائيليتين مجرد عنوان فارغ، من دون أن نغفل خيارات محور المقاومة لجهة مواجهة القوى الإقليمية الداعمة للعدوان، مع ما يعنيه هذا الأمر من إمكان تحول المعركة الحالية إلى حرب إقليمية لا تلائم، في حال حدوثها، متطلبات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
وعليه، بعيداً عن الحملة الإعلامية التي يحاول الكيان الإسرائيلي، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، أن يوحي من خلالها في قدرته على تحقيق أهداف تتخطى إنجازاته الميدانية المتواضعة، يجب الإشارة إلى أن الواقع في قطاع غزة لن يكون محكوماً إلا بالنتائج الميدانية في أرض المعركة في القطاع، وفي الجبهات الأخرى. وبحيث إن المقاومة في غزة، مدعومة بمحور المقاومة، أكدت قدرتها على الاستمرار في المعركة فترةً طويلة، وعلى إدارة عملياتها العسكرية بتأنٍّ يستهدف الفعّالية، وفق استراتيجية النفس الطويل، من دون أن ننسى إصرارها على عدم الرضوخ لسياسة المجازر وحرب الإبادة الجماعية التي تُمارَس ضد سكان القطاع، فإن المحدِّدات الواقعية، التي ستفرض نفسها في اليوم التالي للحرب، ستكون محكومة لحتمية التسليم بدور حركة المقاومة الإسلامية، "حماس"، في تحديد قواعد الاشتباك الجديدة، وبعدم القدرة على الالتفاف عليها في موضوع التفاوض بشأن تبادل الأسرى ومسار العملية السياسية المفترضة بعد الحرب.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.