يا جبل عامل "ما يهزّك ريح"
بالرغم من كل الاعتداءات الصهيونية الإجرامية على لبنان وغزة والضفة، فإن حزام التجريف الشمالي يتوسّع شيئاً فشيئاً بفضل صواريخ حزب الله.
تتكشّف أهداف العدوان الهمجي على لبنان يوماً بعد يوم، وتظهر الأجندة الخفية التي تتجاوز قواعد الاشتباك والتدمير الإجرامي لأحياء بكاملها، إلى خارطة ديموغرافية لا مكان فيها لهذه الكتلة الحية الكربلائية من المقاومين عبر التاريخ، ولكن هيهات أن تُقتلع الجبال فكيف إذا كانت مثل جبل عامل، جبل لا يشبه أي جبل، في العراقة والرموز والتاريخ والجغرافيا وروح المكان وذاكرته.
كانت البداية مع صور الفينيقية وموقعها في الحضارات الأولى، السفن والأرجوان وتطويع البحار والحروف، والصمود الأسطوري أمام كلّ الغزاة، مروراً بطريق الحرير والإيلاف الشمالي من اليمن وقبائل عاملة وخيلها وبيارقها ومضاربها وقراها وقلاعها، من الشراة وكرك الأردن إلى وادي اليرموك والحجير والليطاني وشقيف وكرك زحلة، كما ظل الساحل السوري الشمالي ومرتفعاته التي تطل على البحر، بين كسروان والمتن والشوف ناقصاً حتى أكمله العامليون بالجبل الذي منحوه اسمهم جنوب لبنان.
انقسمت قبائل عاملة في البداية بين معركة الجمل وصفّين، ولما فاض الاستبداد على دولة الفاتحين، التحقّ معظمها بعترة رسول الله وإمامة الحقّ والجهاد، ووزّعت دمها بين مقاومة غزاة البحر الفرنجة وبين مقاومة الأرقاء والعلوج الذين صاروا ملوكاً في القاهرة، وانتهوا على يد من هم أظلم منهم وأضلّ سبيلا في إسطنبول، فانتفض العامليون مرات ومرات وساندوا محمد علي في حلمه العربي، وواصلوا القتال ضد المستعمر الأوروبي من جديد، وجعلوا من وادي الحجير أيقونة للشرف والبطولة، مرة ضد الغزاة الفرنسيين نصرة لعرب الشام، ومرات ضد الغزاة الصهاينة، 2000 و2006 ومنذ طوفان الأقصى وحتى اليوم نصرة لعرب فلسطين.
فكان أنّ منّ الله عليهم بشهيدهم وسيد الشهداء الكبير، حسن نصر الله ثاني الكربلائيين بعد الإمام الحسين، جبل عاملي يليق بجبل العوامل، وإن رحل أو غاب برهة من الوقت، فهو سيد الزمان، وكلّ قطرة من دمه وكلّ حبّة من مسبحته وكلّ حبّة تراب خدشت جسده الطاهر في تلك الفاجعة، وكّل كلمة خرجت على لسانه كما السيف وهو يخرج من غمده، تسري في عروق الجبل الأخضر الأشمّ بين البحر والغيم، وتعود في اكتمال البدر ومطلع كلّ شمس ولوحة وقصيدة وبندقية.
تالياً، أوراق وصفحات من يوميات الصراع على الجبل وحيثما امتدت ظلاله:
مضى هذا الليل كغيره مضى
قليلة هي القوى والجماعات والشخصيات التاريخية التي تستطيع تجاوز المحن والفواجع التي تداهمها فتعيد ترتيب نفسها وأوراقها بالعزيمة ورباطة الجأش والعناد والمثابرة، وصولاً إلى الإمساك بزمام المبادرة كما كانت سيرتها الأولى.
على هذا الصعيد وبهذا المستوى الذي يصل حد اليقين، لا قوة تضاهي حزب الله بالعلو على الجراح والثقة بالنصر آخر المطاف، وقد مرت عليه نوائب وامتحانات وظروف ناءت بحملها الجبال، وهو يطاول بنياناً عسكرياً وإعلامياً وسياسياً غير مسبوق من أعتى التحالفات الشيطانية، ممثّلة بالإمبرياليين والأطلسيّين وأدواتهم من الصهاينة والتكفيريّين والملوّنين.
الضربة التي لا تقتلني تقوّيني
في قول لماوتسي تونغ (الضربة التي لا تقتلني تقوّيني)، وقد جاء هذا القول بعد خسارة قاسية لإحدى المعارك ومقتل العديد من قادة الجيش الشعبي الصيني الذي كان يقود حرب التحرير الوطنية ضد تحالف الاحتلال والقوى المحلية العميلة ممثّلة بـ "الكومنتانغ".
لا نستدعي هذا المأثور الصيني من باب العزاء أو التبرير بل من باب الدروس والثقة بالنصر إذا ما امتلكت أيّ جماعة ثورية مقاتلة الإرادة والمثابرة والإصرار على الظفر، فكيف إذا كانت قضيتها عادلة وتستحقّ التضحية، وكيف إذا كانت هذه الجماعة من وزن حزب الله وقائد تاريخي استثنائي أسطوري مثل سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله.
نعرف ويعرف الجميع أن الجيش الشعبي الصيني سرعان ما استعاد عافيته وهزم العدو وأسس دولة قاب قوسين أو أدنى من تسيّد العالم، ولم يكن التحالف المعادي أقلّ بطشاً وغطرسة من تحالف الشر الأميركي ـــــ الصهيوني ضد حزب الله.
أياً كانت الاحتمالات
يحاول العدو الصهيوني عبر واشنطن، شريكته في الإجرام والإبادة الجماعية ضد السكان المدنيين، أن يحوّل تدمير القرى والأحياء والمدارس والمراكز الصحية إلى فاتورة سياسية باسم وقف إطلاق النار وفكّ المسار السياسي بين جبهات الإسناد بعد أن فشل في ذلك ميدانياً، ومن ثم إطلاق حملة عبر الفضائيات المشبوهة لتفريغ وحدة المقاتلين على مستوى الإقليم والتي تشكّلت على مدار الأشهر الماضية.
من المؤكد أن الحزب الذي عرف كيف يدير المعركة بعد طوفان الأقصى، وبالرغم من خسارة قادته والتدمير الوحشي الذي أصاب بيئته، قادر على إدارة هذه المرحلة بقراءة لوقائعها الراهنة (الصمود الميداني بل إخذ زمام المبادرة عسكرياً) وللتحديات الناجمة عن تدمير المنازل والبنى التحتية.
وليس على أحد من أبراجه العاجية أن ينصّب نفسه وصيّاً على حزب الشهداء والبطولات ويعلّمه ما الذي يتوجّب عليه أن يفعله، سواء على الصعيد السياسي أو بالتصعيد الميداني، فالثقة بالحزب هي الثقة بالنصر الأكيد.
من مشروع الاقتلاع المذهبي إلى حرب الغاز وماء الليطاني
بالإضافة إلى مشروع الاقتلاع المذهبي للعامليين وإلى الأهداف الأخرى لعدوان التحالف الأميركي الصهيوني على لبنان، لا يغيب عن هذا العدوان استكمال السيطرة على حوض شبعا – الجولان المائي بالوصول إلى الليطاني ووضع اليد على حقول الغاز في الجنوب اللبناني كما الساحل الفلسطيني.
هذا ما يغيب أو يجري تجاهله تماماً من الجانب الآخر من المعادلة اللبنانية المعروف بعلاقاته مع الدوائر الأميركية والغربية والمحميات النفطية، ولا يبالي بذلك أصلاً رغم ثرثرته اليومية عن السيادة والدولة، وهذا ما يريد تغييبه عن جماهيره إذا ما تساءلت عن هذه الملفات وأدركت أن من يدافع عنها هو حزب الله وليس التشكيلات الطائفية التابعة التي تختطف وعي هذه الجماهير، وهو ما يذكّر بدور هذه التشكيلات في تسعير الخلافات مع سوريا وإغلاق الحدود معها، رغم أن مصالح هذه البرجوازية تحديداً كان في فتح هذه الحدود لكن ارتباطاتها السياسية كانت أكبر من مصالحها المباشرة.
إلى ذلك، وفيما يخصّ الغاز نعرف أن أكبر الدول التي تحوز احتياطات مؤكّدة من الغاز هي روسيا (49 تريليون متر مكعب)، ثم إيران (34)، وأنّ غاز حوض المتوسط المقابل للساحل الفلسطيني يحتل المرتبة الثالثة وكان عاملاً حاسماً في مراجعة الإمبريالية الأميركية لاستراتيجية إعادة الهيكلة والعودة إلى الشرق الأوسط، حيث يحتوي الساحل الفلسطيني واللبناني كميات كبيرة من هذا الاحتياطي.
كانت البداية عام 2000 في حقل مارين – غزة، ثم حقول تامارا عام 2009 (280 بليون متر مكعب)، و"ليفاثان" (620 بليوناً)، و"دولفين" و"سارامير" و"تانين" و"شمشون" و"كاريش" و"دانيال"، بالإضافة إلى الحوض القبرصي (600 بليون) وحوض ظهر المصري (850 بليوناً)، والحوض اليوناني.
وقد وجدت الإمبريالية الأميركية في هذه الاكتشافات فرصة لتوظيفها لضرب الغاز الروسي والإيراني واستبداله بالغاز الذي يحتله الكيان الصهيوني، وقامت من أجل ذلك بإصدار قانون شراكة الأمن والغاز عام 2019، وكذلك تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بمشاركة الكيان الصهيوني ومصر وإيطاليا وقبرص واليونان ودول أخرى.
قتل وجاسوسية "ع المكشوف"
قبل العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة ولبنان، كانت مراكز الاستخبارات والقتل الإمبريالية والصهيونية تتنصّل من جرائمها وأعمال الجاسوسية التي تقوم بها كلّما انكشف أمرها، أما اليوم فهي تتبجّح بهذه الجرائم والأعمال وتنشر فيديوهات حولها، سواء من باب ما تعتقد أنه حالة من حالات الصدمة والترويع لتخويف الناس وإرهابهم، أو من باب وقاحة وسيكولوجيا المجرم، حتى بلغ الانحطاط والسفالة بها إحضار عميل معمّم ملتحٍ ودفعه إلى إحدى الشاشات لتقديم تهديدات سافرة بالقتل.
صمت في العالم (الإسلامي) وتفاعل في العالم (المسيحي)
فيما يبدو مفارقة عند البعض، فقد شهد العالم (المسيحي) حراكات حيوية تضامناً مع الشعب العربي في غزة ولبنان، وصلت مستوى قطع العلاقات الدبلوماسية مع العدو، كما فعلت العديد من بلدان أميركا اللاتينية وبحر الكاريبي مثل بوليفيا وكولومبيا ونيكاراغوا إضافة إلى فنزويلا وكوبا، كما قامت بلدان مثل جنوب أفريقيا بتحريك قضية ضد الإجرام الصهيوني لدى محكمة العدل الدولية، وبالمقابل فإن الدول المتورّطة مع العدو في معاهدات واتفاقيات تشمل كل الحقول، لم تجرؤ على هذه الخطوة المفترض أن تشكّل الحد الأدنى من التضامن المطلوب مع شعب عربي يذبح كلّ يوم وتدمّر مستشفياته ومدارسه ومساجده وكنائسه.
هكذا وباستثناء دول قليلة من العالم الإسلامي مثل إيران، كم دولة عبرت عن الحد الأدنى الفعّال مع جماهير المؤمنين في فلسطين ولبنان، وكم رئيس وزعيم من هذه الدول تجاوز الثرثرة الإعلامية لأغراض انتخابية أو سياسية داخلية.
عندما قامت أقلام الاستخبارات الأطلسية والرجعية بإحراق سوريا انخرط (العالم الإسلامي الرسمي) في هذه الحرائق بأشكال مختلفة في نصرة مزعومة تعود إلى تقاليد (الجهاد الأميركي) في أفغانستان، وعندما قام العدو الصهيوني بإحراق غزة ومساجدها وكنائسها غطّ هذا العالم في نوم عميق ولا يزال.
ولم تكن الجماعات الأصولية التكفيرية أحسن حالاً، بل إن جماعات مثل جبهة النصرة و"داعش" أنعشتها هذه التطوّرات بدعم مشغّليها الإمبرياليين والرجعيّين وراحت تقصف الجيش السوري ولم تفكّر لحظة واحدة بإسناد (إخوانها) في الدين، ذلك أنها ولدت أصلاً بين أصابع الاستخبارات الأطلسية المذكورة وخدمة لها.
فرق أخلاقيّ بين القاتل والمقاوم
بات معروفاً أنه كلما خسر العدو الصهيوني المزيد من المواجهات الميدانية مع رجال المقاومة في لبنان وفلسطين كلما لجأ إلى قتل المدنيين، شأنه في ذلك شأن القتلة من المجرمين المرضى، وبالمقابل وبالرغم من الاحتقانات الشعبية في كل مكان التي تطالب بقصف كل ما يتعلّق بالعدو المجرم، إلا أن قوى المقاومة من حزب الله إلى غزة ظلت تركّز عملياتها على "الجيش" الصهيوني ومؤسساته العسكرية والأمنية.
الجانب المخفي من أسرار الموساد
من الظواهر التي لازمت اليهودية السياسية على مرّ التاريخ، ظاهرة الجاسوسية والتي كانت تنسب إلى النساء اليهوديات بشكل خاص، كما عرفت أيضاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين حين وضعت الحركة الصهيونية نفسها في خدمة المخابرات الاستعمارية وخاصة البريطانية، على غرار شبكة أرنسون والمجاميع العاملة باسم الاستشراق على غرار شبكات مرغليوت والياهو إيلات، كما ترسّخت مع إنشاء الكيان الصهيوني كعصابة وثكنة وظيفية شرق المتوسط.
ولم يقتصر النشاط التجسسي للأجهزة الصهيونية على قدراتها الذاتية والتكنولوجيا المتطورة، بل استمدّت هذه الأجهزة جانباً خطيراً ومؤثّراً من عملها ومعلوماتها من أشكال التنسيق الواسعة مع عشرات الأجهزة في الدول الإمبريالية والدول الأخرى التي ارتبطت معها بعلاقات متعدّدة سواء على صعيد ثنائي أو تحت عناوين إقليمية باسم مكافحة الإرهاب.
كما يشار هنا إلى أنّ كلّ المعلومات التي تقدّمها الأجهزة الحليفة للمخابرات الأميركية والبريطانية والفرنسية وأمثالها تنقل إلى الموساد، وخاصة ما يتعلّق بقوى المقاومة مثل حزب الله والمقاومة الفلسطينية.
معظم مستوطني الشمال صاروا في كندا وأوكرانيا وغيرهما
يقول مجرم الحرب المسعور ورئيس حكومة الإبادات الجماعية، نتنياهو، إنه سيعيد الهاربين من المستوطنات الصهيونية شمال فلسطين المحتلة، ويتجاهل أن معظمهم غادر الكيان الصهيوني إلى غير رجعة وراح يستقر في كندا وأوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا وبولندا حيث تعود أصولهم.
وبالرغم من كل الاعتداءات الصهيونية الإجرامية على لبنان وغزة والضفة، فإن حزام التجريف الشمالي يتوسّع شيئاً فشيئاً بفضل صواريخ حزب الله، بل إن هذا التجريف توسّع كثيراً ليشمل صفد وطبريا وحيفا وعكا ويحوّل ما يعرف بـ" تل أبيب" إلى مركز لجوء مكتظ بالهاربين قبل أن تصبح هذه المدينة نفسها هدفاً لصواريخ الحزب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً