زيت الثعبان وحكومات التكنوقراط
تتشابك في بلادنا قضايا الصراع الطبقي مع قضايا الصراع ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني– الرجعي وتجلياته الطائفية والجهوية.
من العلاجات الوهمية عند الشعوب القديمة، شرقاً وغرباً، زيت الثعبان الذي يستخرج من الأفاعي لعلاج بعض الأمراض أو للاستخدام ضد لدغات وسم هذه الأفاعي، ويعرف في مناطق أخرى بحجر الثعبان وأحياناً خرزة الحية، التي قد تنتزع منها أو تكون من مخرجاتها العضوية، كما يعرف هذا الحجر عند بعض القبائل الأفريقية بالحجر الأسود كممتص للخطايا والأرواح الشريرة.
في كتابين صادرين عن عالم المعرفة 2019، هما "اليورو" لجوزيف ستيغلتز، و"رأسمالية الكوارث" للصحافي والباحث الأسترالي أنطوني لونيشتاين، أمثلة صارخة على زيت الثعبان الوهمي ممثلاً بحكومات التكنوقراط كحلول سحرية جديدة خادعة ومزيفة مطبوخة في (دوائر السم) التابعة للبنك وصندوق النقد الدوليين.
ومنها على سبيل المثال تجارب اليونان وهاييتي، وقبلهما الهيكلة المدمرة التي تعرضت لها بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، وكذلك تجربة سنغافورة التي انتعشت كمحمية أوليغارشية بعد استبدال كامل لشعبها الأصلي من الملايو وإلحاقهم بمصير الشعوب الأصلية في أستراليا وغيرها التي دمجت في المحميات الطبيعية (كفرجة سياحية).
وكما يذكر كتاب آخر هو "اعترافات قاتل اقتصادي" لجون بيركنز، فإن الطريق إلى حكومات التكنوقراط يبدأ باستدراجات التبعية الاقتصادية وفسادها، وصولاً إلى الديون الثقيلة بعد حملات منظمة ضد القطاع العام وتدخل الدولة في الاقتصاد والسياسات الحمائية، وتشكيل شبكة من الضغوط الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والمحلية (جماعات الـNGOs الليبرالية) لمواجهة الديون بإجراءات تشبه المثل الدارج (بيع البقرة والشراء بثمنها حليباً)، فتحل حكومات التكنوقراط بالرضا أو عبر ضغوط الثورات الملونة الليبرالية محل الحكومات السابقة، تحت عناوين عدة لإعادة الهيكلة أبرزها:
- التخلص من القطاع العام، وسياسات الدعم الاجتماعي.
- تخفيض العجز والإنفاق الحكومي.
- نظام ضرائب معمم يخلط بين الأغنياء والطبقات الشعبية.
- تهديد مبطن بالتعويم النقدي.
- كلام طنان رنان عن الثورة المعلوماتية والدراسات الاحترازية، وأيديولوجيا الإحصاءات والأرقام وأسعار الفائدة وفروق العائد على السندات وغيرها من العناوين التي تفتقر إلى سياقات موضوعية حسنة النية.
- ومن اللافت للانتباه في كل هذه التجارب ربط إعادة الهيكلة المذكورة بالليبرالية وحكومات التكنوقراط وبعنوان فاقع جديد كما العناوين الدارجة السابقة باسم الحكومة والشفافية، هو (أكاديميون من أجل التقشف).
- أما الإطار العام الأخطر من كل ما سبق، هو التحريض الجديد للتكنوقراط وحكوماته الذي يفرّغ (هذه الحلول) من أي مضمون سياسي لا من حيث الشكل (الأحزاب) ولا من حيث المحتوى وبما ينسجم مع مناخات (البيلدربرغ) و(دافوس)، وهما أكبر تجمعان للأوليغارشية المالية والنقدية والإعلامية العالمية ومن ضمنها سلالات روتشيلد ومردوخ اليهودية.
فبحسب هذه المناخات، لم تعد السياسة متاحة للجميع، وعلى العالم أن يكيّف نفسه مع ذلك والتصرف كبلديات كبرى، تاركاً السياسة الخارجية والأمن والدفاع للبيوتات الأوليغارشية الكبرى.
وفي الحقيقة أياً كانت صحة بروتوكولات حكماء صهيون من عدمها، فالبروتوكول السادس عشر يكثف المواقف السابقة.
إلى ذلك، وفي ما يخص التداعيات الاقتصادية لحكومات التكنوقراط وسياساتها، فالتجارب مريرة وكانت النتائج معاكسة تماماً للأكاذيب الرأسمالية، وأولها أنه مقابل الجعجعة الليبرالية عن عالم حافل بالحريات مقابل الأصوليات القديمة، فإن أصولية السوق تتجلى كما أرادها أو تحدث عنها المهندسان الكبيران المعاصران لها، هايك وميلتون، بل أن "العالم الحافل بالتنوع" حوّل البشر إلى ما يشبه الدجاج الأبيض، والأسوأ منه ألوان الفاشية الجديدة، التي تركز نقمتها على المهاجرين والعمالة الوافدة الرخيصة، مثل النازية الصاعدة في ألمانيا وفرنسا وأميركا واليونان (الفجر الذهبي).
أما على الصعيد الاقتصادي، والاجتماعي، فلم تنخفض معدلات البطالة في أي بلد سقط تحت ابتزازات البنك الدولي وحكومات التكنوقراط والثورات الملونة الليبرالية، ولم تتحسن ظروف الطبقات الشعبية أبداً، بل زادت سوءاً وخاصة مع تراجع دور الدولة في دعم السلع والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء.
كما تراجعت قطاعات الإنتاج المحلي بسبب غياب السياسة الحمائية والعجز عن منافسة الشركات العالمية التي تستفيد من معطيات اللعب في أسواق كبرى. يشار هنا إلى المثال الذي ورد في كتاب "اليورو" حول نجاح الشركات الهولندية في شطب كلمة "الطازج" من دعايات الحليب اليوناني الطازج يومياً، والذي لم يعد قادراً على منافسة الأسعار الأرخص للحليب الهولندي المبرد.. وهكذا.
في الختام، وقبل أن تجثم الرأسمالية المتوحشة على صدر العالم، ثمة مساحة للتنفس قليلاً بإجراءات الضريبة التصاعدية، والدعم الحكومي للسلع والخدمات الأساسية والسياسات الحمائية المترافقة مع تطوير الإنتاج المحلي، وذلك بالتزامن مع استعادة السياسة عموماً والسياسة الوطنية خصوصاً، حيث تتشابك في بلادنا قضايا الصراع الطبقي مع قضايا الصراع ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني – الرجعي وتجلياته الطائفية والجهوية.