الحضارة والبربرية.. قراءة مغايرة
لا بد من التمييز ابتداء بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، فالأولى حضارة امتداد غير عدوانية مثل الحضارة الفينيقية والآرامية والمصرية. بالمقابل، الحضارة الغربية الرأسمالية حضارة توسعية عدوانية عنصرية قامت على المركزية الثقافية العنصرية.
هذه قراءة مغايرة لما هو سائد في الأدبيات الغربية وامتداداتها العربية وغير العربية من شرق العالم وجنوبه، فالحضارة ليست مفهوماً غربياً، وبالمثل فإن البربرية ليست مفهوماً شرقياً، كما سوّقت ذلك المركزية الثقافية الأوروبية – الأميركية.
ومن الإسقاطات الحالية لهذا الموضوع:
- سقوط السرديات الغربية الرأسمالية في غزة، بوصفها تعبيراً عن بربرية عليا وامتداداً لبربريتها الأولى في الغرب الأوروبي – الأميركي.
- دحض الإطار الإيديولوجي المعرفي لحضارة المركزية الثقافية الغربية وأدواتها المعرفية مثل الأنثربولوجيا الأولى.
- إذا كانت الحضارات عموماً تنطوي على جرعات من البربرية التي عرفتها الحضارة الغربية الرأسمالية، فإن السمات الأساسية لهذه الأخيرة بربرية في جوهرها.
- من المفهوم أن المقصود بالبربرية لا ينسحب بأي شكل على الأمازيغ الذين شيطنتهم روما وأوروبا تحت اسم البربر، حتى إن بعضهم لم يتخلص من هذا التوصيف حتى الآن، وهو ما يذكر أيضاً بالتوصيف الذي روّجه المؤرخ الأميركي – البريطاني – اليهودي، برنار لويس، عن الفرقة الإسماعيلية النزارية في قلعة "ألموت"، حين أطلق عليهم لقب "الحشاشين".
الإطار العام لهذه المساهمة
مقابل الثنائية الأوروبية طبيعة (بربرية) مقابل الحضارة، ومقابل المقاربة الاستشراقية الأنثروبولوجية، تستعين هذه المساهمة بالمقاربة الإثنولوجية للطبيعة والحضارة، للمجتمعات ما قبل الانقسام الطبقي الكبير، وللحضارات كحقب طبيعية تتخلل الشرق والغرب والشمال والجنوب.
في حالة الطبيعة الأولى، ثمة تباينات في تشخيصها، الوئام بسبب الوفرة كما عند روسو ولوك، أو الصراع حيث الإنسان ذئب أخيه الإنسان كما عند توماس هوبز، وقد شكل التصوران أساس نظريات العقد الاجتماعي للدولة القومية البرجوازية، سواء الليبرالية الكلاسيكية عند لوك أو الدكتاتورية عند هوبز.
ومن تجليات هذه الحالة:
- إنسان المشتركات القروية الأمومية الأولى، بنى القرابة وموقع الأم فيها (دراسات شتراوس) ومجاميع لم تصبح مجتمعات بعد (دراسة تونيز).
- العقل والفكر الأولي، الإدراكات الحسية (دراسة ليفي برول).
- البحث عن القوة الفاعلية الأولى من مرحلة السحر (التشاكل) و(الأسطورة) و(الطقس)، وتجليات وحدة الوجود، الذات والموضوع، ووسائطه، الساحر، الشامان، والكهنة، وخاصة الكاهنات.
حالة الحضارة (الطبقية)
السياق العام، تطور أدوات الإنتاج وصولاً إلى الثورات العلمية، مغايرة كتاب توماس كون، بنية الثورات العلمية، فجذورها تمتد في الحضارات الشرقية، لكنها تطورت أسرع وأكثر مع الثورة الصناعية والبرجوازية، المطبعة، الآلة البخارية، وصولاً إلى الكهرباء... إلخ.
تعالقات الحضارة، مثل الثقافة، التقدم، العقل، التاريخ، التدوين:
1. التقدم والتاريخ والمقاربات المختلفة لهذا المفهوم:
- التقدم المستقيم، حتمية مستوردة من البيولوجيا أفضت إلى القراءة الساذجة والعنصرية عند فوكوياما.
- التقدم الدائري في مرجعياته المختلفة من ابن خلدون إلى فيكو وتوينبي وإلياد (العود الأبدي).
- التقدم الفوضوي.
- التقدم وفق رؤية التشاكل الأسطوري المستعادة مع شبنغلر.
- التقدم والتاريخ الحلزوني، كما عند هيغل، ماركس وديالكتيك الصراع والوحدة، النفي ونفي النفي.
2. الثقافة، كمفهوم إشكالي متعدد الإحالات والحقب، من الطقوس الدينية إلى التثقيف بمعنى الترويض، التشذيب للأرض والرمح، إلى المقاربات اللاحقة وموقعها في البنية الفوقية، سواء من زاوية الثقافة واللغة والحضارة عند سابير، إلى الثقافة من زاوية بنيوية عند شتراوس، إلى الثقافة من زاوية وظيفية عند مالنيوفسكي، والأهم عند غرامشي وتمييزه بين المثقف العضوي للطبقة الصاعدة تاريخياً، وبين المثقف التقليدي.
3. الدين والحضارة، وتذهب هذه المساهمة إلى الاختلاف الأساسي مع الكتابات السائدة عند فراس السواح وغيره، والتي تعدّ الأديان امتداداً للأساطير، فيما أرى فروقاً جوهرية بينهما، ففي الأساطير وحالة الطبقية الأولى، فالسمات الأساسية هي وحدة الوجود ودور الطقوس الاندماجية، أما في حالة الأديان فنحن في حالة الحضارة الأولى كما أشار هيغل عند حديثه عن الروح الموضوعي وتجلياته، ناهيك بأن الله مفارق، وبأن الشعار والشرائع تحل محل الطقوس والتابو.
4. السلطة والحضارة، من المشتركات القروية إلى الأشكال الحضارية، دولة المدينة، الإمبراطوريات الإيلافية، الدول القومية النهرية، ودول نمط الإنتاج الآسيوي.
5. الإنسان والحضارة، من الذات الفرد إلى الذات الإنسان إلى الطبقة والمجتمع المدني.
6. العقل والحضارة في بيئة إنتاجية (زراعة، صناعة) ومن الإدراك إلى الفهم إلى العقل عند ديكارت وكانط، إلى اللا عقل مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي.
حضارة رأسمالية بسمات البربرية العليا
لا بد من التمييز ابتداء بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، فالأولى حضارة امتداد غير عدوانية مثل الحضارة الفينيقية والآرامية والمصرية، وحضارات وادي الرافدين الأولى، والحضارات الشرقية في الهند والصين.
بالمقابل، الحضارة الغربية الرأسمالية حضارة توسعية عدوانية عنصرية قامت على المركزية الثقافية العنصرية، سواء من زاوية جغرافية (غرب – شرق) أو من زاوية بيولوجية عرقية أو من زاوية إيديولوجية عنصرية السيد الأشقر الذكوري مقابل العبد الجنوبي زائد النساء، وهي نظرة مستمدة من التلمود اليهودي، شعب الله المختار، الذي جرى تعميمه بعد ما يعرف بالإصلاح الديني المزعوم أو الثورة اللوثرية.
وتساعدنا في قراءات ذلك كتابات سومبارت (الرأسمالية واليهودية) التي ربطت نشوء الرأسمالية بتهويد المسيحية بعد الثورة المركبة، اللوثرية-الرأسمالية، وكتابات ماكس فيبر التي ربطت الرأسمالية بالبروتستانتية، والأهم كتابات ماركس (حول المسألة اليهودية) الذي اتهم بمعاداة السامية بسببه، حين ربط تحرر البشر بالتحرر من الرأسمالية، وربط الأخير بالتحرر من الربوية اليهودية.
تجليات البربرية في الحضارة الرأسمالية المتهودة
بالتأكيد، لا يمكن ولا يجوز إنكار ما حققه الغرب على صعيد العلم والعقل والحرية، وخاصة في المرحلة الأولى من الحضارة الرأسمالية، فمن الصورة العلمية والصناعية والفكرية إلى نظريات العقد الاجتماعي وحملات نابليون ضد الإقطاعيات في قلب القارة الأوروبية... إلخ. إلا أن هذه الثورات العلمية والمعرفية والحقوقية سرعان ما تراجعت لصالح سرديات كولونيالية استعمارية عنصرية باسم المركزية الثقافية الغربية، فالرأسمالية في جوهرها لا يمكن أن تكون ديموقراطية وعادلة وإنسانية وسلمية، ومن تجلياتها بعد اندماجها مع اليهودية أن الثورة اللوثرية والإصلاح الديني المزعوم:
- العرق الآري الأبيض المتفوق ومعادلة السيد والعبد اشتقاقاً من فكرة شعب الله المختار اليهودية.
- التطويب المقدس للأرض الموعودة المزعومة (عالم المستعمرات) فكل أرض مطلوبة من الأبيض هي ملك له مقابل معادلة الجغرافيا (ليس الأرض) والسكان الكفار (ليس الشعب) لبقية الشعوب المستعمرة.
فالتطويب المقدس يطال الناس أيضاً، ومن منهم لم يخضع للمستعمر فهو كافر بدائي برسم الترويض كما الحيوانات أو القتل، ومن ذلك سلوك المجرم الصهيوني في غزة، فأهلها إما برسم القتل أو الترويض على مقاس الإبراهيمية السياسية (أبناء سارة وأبناء هاجر).
- الاستعمار باسم تمدين المتوحشين على غرار رواية روبنسون كروزو لدانييل ديغو.
- الداروينية الاجتماعية والمالثوسية.
- الحروب والإبادات الجماعية والتكفير والقتل داخل أوروبا نفسها (إعدام توماس مور، وحرق برونو 1600، محاكم التفتيش الكنسية وفظائعها، الحروب والمذابح الدينية وخاصة بين الكاثوليك والكالفنية، قطع رأس الملك تشارلز في بريطانيا بالتزامن مع إعلان الدولة المدنية في وستفاليا).
- الحرب الأهلية والعالمية.
- حروب النهب الاستعماري (تجارة الرق والعبيد وإبادة ملايين الهنود الحمر والأفارقة والسكان الأصليين في أستراليا). ومن عصرنا الجرائم الأميركية المعروفة مثل إلقاء القنابل الذرية على المدن اليابانية، والسائل البرتقالي لإبادة القرى في فيتنام، واليورانيوم المنضب في العراق، وأخيراً تغطية الجرائم الصهيونية في فلسطين).
التجليات البربرية في الغرب نفسه في المرحلة الإمبريالية والـ ما بعديات (ما بعد الحداثة وما بعد المجتمع الصناعي وما بعد الإنسان):
في ما يخص العناصر الأساسية في سردية الحضارة الرأسمالية الغربية
أولاً: تحطيم الإنسان، من الاستلاب السلعي إلى الاستلاب الجسدي (ميرلو بونتي) إلى المثلية كظاهرة إمبريالية مبرمجة في إطار المالثوسية والداروينية الجديدة، وهندسة الجينات.
ثانياً: تحطيم العقل وصولاً إلى العقل التقني مقابل العقل النقدي، كما لاحظت مدرسة فرانكفورت وهابرماس قبل انحطاطه في حرب غزة.
ثالثاً: تحطيم الحرية، ونقلها من دائرة فولتير – كانط – هيغل إلى حرية السيد الرأسمالي المتوحش.
رابعاً: استعادة جون لوك في زمن مختلف لصالح بوريل (مثل الاتحاد الأوروبي) الحديقة الأوروبية - الأميركية الحضارية المزعومة مقابل الغابات العالمية المتوحشة:
- الحريات المتوحشة وفلاسفتها اليهود مثل:
o شتراوس وبنتام (رفض نتائج صناديق الاقتراع إذا لم تخدم حرية الأسواق والرأسماليين).
o ميلتون فريدمان، مدرسة شيكاغو وكتابه (الرأسمالية والحرية).
o فردريك فون هايك، من مدرسة شيكاغو وكتابه (دستور الحرية) وقد عمل مستشاراً لمنتدى دافوس (مؤتمر النهابين الكبار الدوري).
تيارات مناهضة لمفهوم المركزية الغربية ولمفهوم التقدم وحتميات فوكوياما من داخل الحضارة الرأسمالية:
- مدرسة الزمن الدائري اعتماداً على تراث أفلاطون، فيكو، توينبي.
- الرومانسية الجديدة اعتماداً على تراث الرومانسية الألمانية (نوفاليس، وشليغل)، وكذلك كتابات روسو ضد فولتير والمدن الفاضلة امتداداً لأفلاطون وتوماس مور (يوتوبيا) وبيكون (الأورجانون الجديد).
- مناهضون من عوالم الأدب مثل بيكيت في نهاية اللعبة وفي انتظار غودو، أورويل في رواية 1984، هسكلي في (العالم الطريف) و(الجزيرة)، الأدباء المهاجرون روحياً إلى الشرق مثل بوشكين، وغوته (الديوان الشرقي) وهوغو وبلزاك وستاندال ودوستويفسكي وتولستوي.
- مناهضون من عالم الموسيقى والمسرح والسينما مثل فاغنر، بريخت، كوبولا (القيامة الآن)، وسكورسيزي (عصابات نيويورك)، وبولاك (إنهم يقتلون الجياد).
مؤشرات فكرية نقدية من داخل الحضارة الغربية الرأسمالية:
- شبنغلر، انحطاط الغرب.
- إدغار موران، ثقافة أوروبا وبربريتها.
- ديزموند موريس، القرد العاري.
- كتابات تشومسكي، أسياد وماسحو أحذية وغيرها.
- أولريتش شيفر، انهيار الرأسمالية.
- عومي كلاين، عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث.
- ديفيد غريبر، مشروع الديمقراطية.
- جيمس برايدل، عصر مظلم جديد.
- آلان دونو، نظام التفاهة.
- ديفيد إيكه، السر الأكبر.
مرجعيات تاريخية ذات صلة:
- جيبون، روما كنموذج لسقوط الإمبراطوريات في الحضارة الغربية.
- أدوارد مونتغو، تأملات في صعود الدول والجمهوريات القديمة وأفولها.
- بول كنيدي، نشوء وسقوط الدول الكبرى.
- بريجنسكي، أميركا بين عصرين.
- أعمال وكتابات ماركس وإنجلز وآخرون:
o ماركس وأنجلز وروزا لوكسمبورغ وتولياتي وماركوز: الربط بين الرأسمالية والبربرية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً