العالم يتغير
الاشراق | متابعة.
العالم الذي نعيشه اليوم يتغيّر، ليس انطلاقاً من رغبات أو إقحامات أيديولوجية، بل من معطيات موضوعية ملموسة لها أسبابها وعواملها المتخلفة.
ما حدث في النيجر، وفي أفريقيا عموماً، وفي أميركا اللاتينية، وغيرها، أكبر من ظواهر محلية، بل ارتدادات لأثر الفراشة ورفتها الأولى، كما شكلتها الممانعات المتدحرجة بين أوراسيا وطريق الحرير، ومعسكر الممانعة والمقاومة، فلم تعد الأحياء الشعبية في الضاحية الجنوبية وكراكاس وثكن الجيش في نيامي ومالي، وكذلك خيمة جنوبي لبنان ووحدات المقاتلين في جنين وصمود دمشق، حالات خاصة، بل صورة مكثفة للعالم القادم برمته.
لقد استعجلت الإمبرياليات عولمة الكون والفضاء والأسواق والدول وراء ربح متوحش، فراحت تحفر قبرها بنفسها، وكان مكر التاريخ وقانون التناقضات في انتظارها، معزّزا بتجارب راسخة من المقاومة والممانعة والإرادة والكرامة.
وبقدر ما عجزت المراكز الرأسمالية عن لجم الآفاق والانعكاسات للثورة المعلوماتية وثورة المعرفة والاتصالات، بقدر ما فقدت بريقها ودورها لمصلحة محيطات سياسية اقتصادية، كبرى مثل الصين.
هذا ما صار حقيقة وفق دراسات صادرة عن قلب الإمبريالية الأميركية، لا من موسكو أو بكين أو فنزويلا: السقوط المدوي لـ جوزيف سيتغليتز؛ عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث لـ نعومي كلاين؛ لماذا فشلت الليبرالية لـ باتريك دينين؛ انهيار الرأسمالية لـ أوليريس شيفر.
العالم يتغير، ليس انطلاقاً من رغبات أو إقحامات أيديولوجية، بل من معطيات موضوعية ملموسة لها أسبابها وعواملها المتخلفة، كما تؤكد بطون الكتب المذكورة.
العالم يتغير، ولم يعد في وسع الإمبرياليات الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا أن توقف عجلة التاريخ نحو عالم متعدد الأقطاب، ولم تعد الفقاعات العقارية والهروب من هذه الحقيقة نحو الحروب، وعسكرة العالم وتلويثه بأسلحة الدمار الشامل، حلاً سحرياً كما درجت عليه هذه المتروبولات المتوحشة.
صحيح أن توزيع القوة لا يزال مختلًا، لكن الاتجاه العام يؤسس معادلات جديدة لتوزيع القوة، ناجمة أيضاً عن توزيع المعرفة وانبعاثات خاصة للذاكرة الثقافية القومية والإمبراطورية هنا وهناك.
العالم يتغير في اتجاهات ومسارات جديدة: شرق – غرب وجنوب – شمال؛ الإنسان في مقابل ما بعد الإنسان والمثلية وهندسة الجينات والإنسان الفرانكشتايني (خليط من الأنسجة والأسلاك).
وثمة ما يقال إزاء العلم السياسي المستعاد، وهو الجيوبوليتيك، الذي يشبه الميكنزمات الأخرى للرأسمالية نفسها، فكما راح محيط العالم المتقدم، مثل الصين ودول البريكس، يقضم المراكز الرأسمالية ويأخذ مكانها بفعل العولمة الرأسمالية نفسها، فإن الجيوبوليتيك المستعاد في أقلام الاستخبارات الأطلسية، بات عبئاً عليها، من نظريات قلب العالم الاوراسية وموقع روسيا فيها، إلى نظريات الإمبراطوريات البرية والبحرية، والتي باتت تتسع لدور حاسم للاعبين إقليميين، مثل إيران، يمسكون زمام المبادرة بشأن أهم الموانئ والمفاتيح البحرية والبرية للتجارة العالمية.
وإذا تذكّرنا أن أحد الأسباب المهمة لتضخم الأسطول البحري الأميركي هو المحافظة على نظام بريتون وودز ودور الدولار فيه، فإن صعود لاعبين كبار جدد في أعالي البحار، مثل روسيا والصين، مؤشر على انهيار الاحتكار الأميركي والتوريق الدولاري للأسواق العالمية.
العالم يتغير في إطار قاموس سياسي – نظري، غير دليل أكسفورد ومحاولات تسييج العالم بمصطلحات إمبريالية جديدة، ومن ذلك:
شرق – غرب وشمال – جنوب
في مقابل الغرب والشمال الرأسمالي (الولايات المتحدة وأوروبا) وامتداداتهما الإمبريالية في اليابان وكوريا الجنوبية وعدد من الخواصر العميلة، فإن الشرق والجنوب اليوم يتمثلان بقوس واسع من دول البريكس واتفاقية شنغهاي وعشرات الدول الراغبة من القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
فإما أن تكون جزءاً من القوس الإمبريالي الشمالي – الغربي، وإمّا أن تكون جزءاً من قوس الجنوب والشرق المذكور، وذلك علماً بأن الغرب والشمال هما من رسم هذه الحدود من زاوية عرقية كريهة، لتبرير النهب والهيمنة، بدءاً بالشاعر البريطاني، كبلينغ، عندما كانت بلاده إمبراطورية نهب وإجرام لا تغيب عنها الشمس، فقال بنبرة استعلائية: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، انتهاءً بالفكرة والاستراتيجية لصراع الحضارات عند الأميركي، هنتنغتون، بعد أن أخذته العزة بالإثم بعد انهيار جدار برلين.
كان الشرق والجنوب بالنسبة إليهما، وفي كل عقل إمبريالي، أسواقاً وموارد للنهب واللصوصية، وبذريعة عنصرية تمنح الغرب الأبيض هذا الحق في أرض الآخرين ومواردهم، كونهم غوييم بمستوى البهائم، وفق الجذر التوراتي لهذا العقل الاستعماري.
ولم تكن التيارات البيضاء الأقل إجراماً أفضل من مثيلاتها المتطرفة، عندما راحت تسوق العولمة وفق المنطق الذي يخدم مصالحها، ويحرم الشرق والجنوب من ثقافتهما الخاصة والأكثر إنسانية وتسامحاً، والأكثر قدرة على هضم العلم والعقل مع قليل أو كثير من الوجدان، الذي غاب تماماً عن الثقافة البيضاء لمصلحة علم جافين وعقله، كما لاحظت ذلك المدرسة الفلسفية النقدية المعروفة بمدرسة فرانكفورت، وكما لاحظ المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، في كتابه "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة"، عندما قال: لم يعد السباق بين روسيا وتحالفاتها وبين الغرب، سباقاً اقتصادياً جافاً من نمط الحرب الباردة، بل صار سباقاً ثقافياً بين الإنسان وقيمه وبين ما بعد الإنسان التقني المجوَّف في الثقافة الرأسمالية الغربية.
صحيح أن من التعسف الشديد إطلاق تعميمات تفصل الشرق عن الغرب، فثمة تاريخ مجيد على الصعيدين السياسي والفكري لمناهضي الرأسمالية والليبرالية والثقافة الاستعمارية في الغرب نفسه، وثمة عمالة ورجعيات لا تُعَدّ ولا تحصى في الشرق حتى يومنا هذا، إلا أننا لا نجازف كثيراً إذا قلنا إن ثمة اصطفافاً موضوعياً تاريخياً اليوم بسمات عامة، تضع الشرق والجنوب في مواجهة الغرب، وتستدعي بناء ائتلافات وتكتلات وتحالفات بمستويات متعددة ومتفاوتة للتعاطي مع هذا التشخيص. ومن المؤكد أن شيئاً من الجيوبوليتيك والمحاور الجغرافية السياسية يخدم هذا الاستنتاج.
العالم يتغير، بانبعاثات جديدة للإمبراطوريات الشرقية والجنوبية التاريخية، وبصحوة من قلب الجوع والمهانة في القارات الثلاث، أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، والتي كانت "مهد" الاستعمارين الأوروبي والأميركي، والسبب المباشر في ثروتهما الأسطورية، حتى إن بريطانيا أطلقت على الهند مصطلح "درّة التاج البريطاني".
إن أميركا اللاتينية، التي كانت توصف بالحديقة الخلفية لليانكي (الأميركي الشمالي)، بدأت، مع كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا والبرازيل والتشيلي، كسر النير التاريخي وتلمُّس طريقها المستقل ومستقبلها الخاص وحقها في السيطرة على مواردها وقراراتها السياسية السيادية، والجلوس إلى طاولة مستديرة للعالم، بعد عقود من النهب والإذلال واللصوصية الأميركية الشمالية، والقتل والانقلابات الإجرامية، والتي كانت تدبرها الاستخبارات الأميركية.
ومن المعروف أن دولا متعدّدة من هذه القارة، مثل البرازيل والأرجنتين، باتت على مقربة من الدول العشرين، كما تحتفظ في الوقت نفسه بتاريخ من الكفاح الشعبي الوطني كصِمَام أمان أمام أيّ محاولات أميركية لعودة عقارب الساعة إلى الوراء في هذه القارة.
أفريقيا بدأت استعادة ذاكرة الكفاح والبحث عن الاستقلال الثاني بعد عقد من الخضوع للاستعمار الأوروبي، وخصوصاً الفرنسي، والذي لم يقدم إليها سوى الجوع والمهانة والحروب والفتن الأهلية. وعلى أهمية التجاذبات الدولية بشأنها، فالمزاج الأفريقي المتصاعد مع الصين وروسيا أكبر من مزاج أيديولوجي، كما كانت الحال أيام الكفاح من أجل الاستقلال، وأقرب إلى رؤية فضاءات دولية جديدة أكثر احتراماً وتقديراً لمصالح هذه القارة وشعوبها، قياساً بالسلوك العنصري وسياسات النهب التي ميزت الرأسمالية الفرنسية المتوحشة وغيرها من الإمبرياليات.
أما آسيا، في تركيبتها المتنوعة، ديموغرافياً وثقافياً واقتصادياً، فإن قواها الكبيرة، باستثناء اليابان وكوريا الجنوبية، ممثلة بالصين وروسيا الآسيوية والهند وإيران وفيتنام وكوريا الشمالية ومعسكر الصمود العربي، تشكل اليوم الرافعة الكبرى للعالم الجديد، ومن المؤكد أن سائر القوى المتضررة من الهيمنة الإمبريالية، مثل الباكستان وماليزيا وإندونيسيا وغيرها، ستجد نفسها آخر الأمر في هذا الموقع.
الليبرالية المتوحشة في مقابل الخيارات الوطنية
من سمات العالم الجديد الآخذ في التشكل، تزامن الانقسام السياسي – الجغرافي مع انقسام اقتصادي اجتماعي. فالغرب اليوم أصبح مرادفاً لاقتصاد الليبرالية المتوحشة والنازية الجديدة المرافقة له، بعد التراجع الكبير للتيارات الأخرى، والتي كانت توصف بالاشتراكية الدولية، والتي تطفو بين الحين والحين على سطح الانتخابات والحكومات البرلمانية من دون برنامجها الاجتماعي السابق.
ذلك بأنه حتى في الحالات القليلة التي فازت فيها في انتخابات برلمانية أو بلدية، لم تغادر الخطاب الفاشي السائد، مقتصرة على اهتمامات محدودة تتعلق بمطالب لا ببرامج بشأن الصحة أو الأجور والضرائب.
الغرب اليوم بات فاشياً في مجمله، ومستعداً لإنفاق مئات المليارات على أسلحة الدمار الشامل في أوكرانيا وغيرها، في مقابل مساعدات اقتصادية وإنسانية ضئيلة هنا وهناك. وليست بلا معنى ملاحظة الكاتبة نعومي كلاين، في كتابها "عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث"، أن مدارس التدخل الاجتماعي الحكومي لإنقاذ الرأسمالية نفسها، مثل مدرسة كينز في أوروبا ورولز في أميركا، هي مدارس هامشية وبرسم الأفول ومغادرة التاريخ الرأسمالي.