ما بعد الطوفان
أحيت ملحمة غزة ثقافة المقاومة والبطولة والكرامة والثقة بالنصر، وأعادت وحدة الأمة حول فلسطين بعد عقد كامل من التفسخ والانشطار الطائفي الذي رافق "ربيع الفوضى".
ما من شيء يبقى على حاله بعد كل طوفان تاريخي، وما من طوفان أكبر من "طوفان الأقصى" في العقود الأخيرة، من حيث تأثيراته ورياحه التي ستذرو كثباناً وأرقاماً كثيرة، انطلاقاً من رمال غزة التي دفنت نخبة "الجيش" الصهيوني الذي لا يقهر، وقبلها جيوشاً وغزاة من كل لون في هذا المفصل البري – البحري بين مصر والشام.
من هذه الأوراق التي راحت تتناثر بيت العنكبوت الصهيوني نفسه، أوهام وخطابات ومشاريع وعوالم كانت ملء السمع والبصر وقد غدت على غير ما أمست، ودخلت دوامة التساؤلات الكبرى حول واقعها ومصيرها وآفاقها.
أولاً، ما مصير "إسرائيل" ودورها الوظيفي
الأكيد أن نتنياهو قد سقط إلى الأبد، ولكنّ السؤال التاريخي في ما يخص الكيان الصهيوني المؤقت، ليس ما بعد ما بعد نتنياهو، بل ما بعد "إسرائيل" في تكوينها الوظيفي الذي خسرته في غضون ساعات، وخسرت معه ركائزها الاستراتيجية: "الجيش" الذي لا يقهر، الأمن الحديدي، المجالات الاستيطانية وخاصة في "غلاف غزة" وشمال فلسطين المحتلة، إذ لم تعد هذه المجالات جنة ليهود الطبقة الوسطى من كل العالم.
لذلك، وأياً كان حجم ومستوى التدعيم العسكري واللوجستي الأميركي للكيان الصهيوني، فإنه دخل مرحلة القوى الغاربة التي لا تفلح مع هزيمتها السياسية والسيكولوجية كل ضروب الهمجية ضد المدنيين، ويحفل التاريخ بالعديد من الأمثلة على هذه الحالة، بل إن قوى مدججة بالأسلحة النووية سقطت عملياً مع أفولها السياسي لأسباب مختلفة.
بالتأكيد كان السابع من تشرين الأول/أكتوبر بمنزلة الصدمة الكارثة على الكيان، والتي سيستفيق منها على آفاق لا تشبه ما قبلها، ولكنها في حقيقة الأمر غير معزولة عن بنية اجتماعية متآكلة من علاماتها هذا السعار الهستيري للداعشية اليهودية المتزامنة في الوقت نفسه مع استنفاد الوظيفة التاريخية للكيان المؤقت في المنظومة الإمبريالية، من صدمة حرب تشرين/أكتوبر وسقوط خط بارليف، إلى العجز عن أي دور في حرب الخليج، حيث قام الأميركيون بالتدخل العسكري المباشر، إلى الفشل أمام حزب الله مرتين، وأخيراً الإخفاق المدوّي أمام القساميين في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والذي سيكون من تداعياته الحاسمة بدء الهجرة المعاكسة وخسارة الكيان لخزانه البشري العدواني الاستيطاني، بل خسارته لمكوّن أساسي من مكونات دوره ووجوده الوظيفي.
فثمة مقاربات أخرى تربط بين دور جديد لليهودية العالمية في أوكرانيا، وبين تراجع الشرق الأوسط أو فقدانه الأهمية الأولى في الاستراتيجية الإمبريالية، التي راحت تتلمس جبهات أخرى تنذر بنهايتها، عبر الجبهة الأوراسية والمحمية الأوكرانية النازية، وعبر جبهة بحر الصين الجنوبي.
وبالمحصلة، فإن "إسرائيل" التي كانت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر بدواعيها الإقليمية المعروفة، لم تعد قائمة، ولن يعد قائماً معها كل الأوضاع المرتبطة بها.
قد تبقى هذه الظاهرة الإجرامية عقوداً قليلة أخرى، لكنها لن تتعدى حالة الثكنة الاستيطانية المجوّفة والمجرفة سياسياً، وإذا ما واصلت ما يعرف بالاتفاقيات المخزية والإبراهيمية فلم يعد التطبيع رافعة أو جزءاً لشرق أوسط متصهين متأمرك، بقدر ما سيظل هدفاً للتصويب حتى يزول مع أطرافه مثل سقط المتاع.
ونستطيع القول انطلاقاً من ذلك أن المناخات العربية الرسمية لما بعد "طوفان الأقصى" لن تكون أفضل حالاً من النسخة الصهيونية نفسها في ضوء الانعكاسات الإقليمية والدولية لملحمة غزة، وفي مقدمتها تقدم محور المقاومة وما يمثله إقليمياً ودولياً، وتراجع الهيمنة الأميركية المرشحة لمزيد من الأزمات في الملفات الإقليمية والدولية الأخرى.
ما بعد الطوفان عربياً ودولياً، سقوط الخطاب
1- سقوط خطاب التسوية وأوهامها بما فيها أوهام حل الدولة والدولتين وغيرهما من عناوين الإزاحة عن خط المقاومة وثقافة الاشتباك، فوظيفة العدو الصهيوني وتركيبته لا تحتملان أكثر من خيارين، الهيمنة أو السقوط.
2- سقوط خطاب الكيانات القطرية وأوهامها وهوياتها القاتلة وعجزها البنيوي عن الإجابة عن أي سؤال وطني أو اجتماعي منذ اقتطاعها من لحم الأمة، وخاصة سوريا التاريخية وتشكيلها على شكل كيانات ودول سياسية بتوقيع "سايكس بيكو، والأسوأ من كل ذلك في ما يخص الموقف من ملحمة غزة والمذابح الصهيونية، هو سيطرة المخاوف الكيانية على هذه الدول، إذ راحت تهرب من واجباتها الوطنية والإنسانية بدعوى الخوف على بنيتها من أي انتقام صهيوني، مكتفية ببيانات إنسانية لا تختلف عن مثيلاتها في أقاصي الأرض.
3- سقوط الخطاب الليبرالي وأوهامه، وخاصة ما تزامن مع "ربيع الفوضى" تحت عنوان التحول الديمقراطي، وهو العنوان الذي تم طبخه وتسويقه من محمية الغاز المسال ومنابرها، استباقاً للعنوان الحقيقي التاريخي وهو خطاب التحرر الوطني الذي يجمع بين القضايا الداخلية، الديمقراطية والاجتماعية وبين القضايا الوطنية وفي مقدمتها الصراع العربي-الصهيوني.
التداعيات السياسية لقوى النظامين العربي والعالمي
إلى ذلك، وفي ما يخص القوى والأنظمة والعوالم السياسية واللاعبين الإقليميين والدوليين، فإن ملحمة القسام تركت آثاراً وبصمات ذات سمة نوعية تاريخية من النوع الذي يؤسس لتحولات كبرى، ويجعل من ذلك الشريط الصغير حول غزة مفاتيح لهذه التحولات:
1- بالنسبة إلى النظام الرسمي العربي التابع، الذي اكتفى بالبيانات الإنسانية، ولم يجرؤ على خطوة عملية واحدة من إغلاق سفارة العدو، وهاجسه في كل ذلك الخوف على مصيره السياسي وتبعيته للمتروبولات الغربية، كما يعود هذا الموقف إلى التركيبة البنيوية لهذا النظام، وما تنتجه من مفهوم محدود للأمن الوطني يغذي مخاوفه من أي ارتدادات لم يتحسب لها يوماً، مطمئناً إلى سطوته وتموضعه الوظيفي في المنظومة الإمبريالية.
2- بالنسبة إلى النظام الرسمي العالمي، والذي ارتكز إلى الليبرالية منذ اتفاقية وستفاليا وتكريس دولتها كنموذج للدول الرأسمالية الحالية.
صحيح أن هذا النظام ظل محتفظاً بجوهره المتوحش إزاء الجنوب والشرق العالميين، ولكنه لم يسقط في امتحان الديمقراطية المزعومة وحقوق الإنسان كما سقط في غزة، وهو يقوم بتغطية المذابح والفظائع الصهيونية ضد المدنيين، وقد غابت عنه كل مزاعم القانون الدولي والإنساني ومئات الاتفاقيات والبروتوكولات والعهود الدولية الخاصة بالحد الأدنى من حقوق الإنسان.
كذلك، وبعد كل هذه الفترة من الحديث عن مبادئ ويلسون والثورة الفرنسية والعولمة الليبرالية، فقد ظلت العنصرية مكوناً أساسياً ثاوياً حيناً ومعلناً حيناً آخر فيما يعرف بالثقافة المركزية الأوروبية – الأميركية، فالدولة في أوروبا والولايات المتحدة تشكلت منذ البداية كدولة متروبولاتية أي كدولة استعمارية تنهل من المرجعية التوراتية، وتعيد إنتاج ثنائية الشعب المختار والأغيار على شكل جديد من السيد والعبد، أو المتحضر والمتوحش.
بالمقابل، أحيت ملحمة غزة ثقافة المقاومة والبطولة والكرامة والثقة بالنصر، وأعادت وحدة الأمة حول فلسطين بعد عقد كامل من التفسخ والانشطار الطائفي الذي رافق "ربيع الفوضى"، وأكدت هذه الملحمة أن المقاومة في حالة الصراع العربي-الصهيوني هي الممثل الحقيقي لهذه القضية، أياً كانت خلفياتها الفكرية والسياسية، ولا معنى لأي تجاذبات خارج هذه الحقيقة.
ذلك ما يتكرس في قلب الاشتباك والممارسة وما يستجيب لفهم قانون التناقضات في حلقاته الجدلية، التناقض الأساسي مع الإمبريالية العالمية وخاصة الأميركية، والتناقض الرئيسي على مستوى كل أمة وهو العدو الصهيوني في حالتنا، وهو ما يترتب عليه أولاً ودائماً استعادة خطاب التحرر الوطني مقابل أوهام التحول الديمقراطي وأكاذيب الربيع الأسود والتجليات المختلفة للتجاذبات الداخلية لكيانات الهويات القاتلة.