شرق أوسط من دون العرب والإيرانيين!
أياً كانت خلفيات ودوافع الحملة المبرمجة المنظّمة الّتي تحاول منذ عقود استبدال التناقض الرئيس للعرب مع العدو الصهيوني وداعميه الإمبرياليين وأدواته الرجعية بتناقض بديل مزعوم مع إيران، واستبدال الجبهة الغربيّة مع تل أبيب بجبهة شرقية، فما من أمتين ساهمتا معاً في ضوء التاريخ والحضارة شرق المتوسط مثل العرب وإيران.
ومن المستحيل مقاربة أي مساهمات أو شخصيات فكرية وأدبية وعلمية طيلة الحقبة العباسية المزدهرة خارج هذه الشراكة، بل إن شعوب الأمة الإيرانية كانت شريكة في إعادة صياغة اللغة العربية وقواعدها (سيبويه والخليل بن أحمد)، ناهيك بتداخل الجهد الفلسفي والحضاري، من بناء بغداد نفسها وفق المعمار الساساني إلى بيت الحكمة.
وقد لا يعرف كثيرون أنَّ لهذه الشراكة جذورها القوية قبل الإسلام، من تبني الإمبراطورية الفارسية للغة الآرامية (جذر العربية) ونشرها واستخدام الأبجدية العربية حتى اليوم، وهي الأبجدية التي ألغتها تركيا، إلى ما تضمّنته الدعوة المانوية من إرهاصات إيديولوجية في مقاربة متوازنة للنفس والجسد والترميزات الطقسية للماء والنار.
أما القاسم السياسي التاريخي الأعظم، فهو التغييب المشترك لهما على يد الغزوة البدوية العثمانية في القرن السادس عشر، من معركة كالديران ضد إيران إلى معركة مرج دابق ضد المنطقة العربية في العام 1516.
وإذا كان الإيرانيون قد تمكَّنوا من استعادة زمام المبادرة في الحروب اللاحقة وتكريس مملكة مستقلة في عهد الصفويين والقاجار، فقد خيَّم الظلام الإقطاعي العثماني على العرب لقرون طويلة، ليخرجوا منه تحت احتلال جديد هو الاحتلال والاستعمار الرأسمالي الأوروبي.
وستمرّ عدة عقود قبل أن يضع عبد الناصر العرب في قلب التاريخ مجدداً ويدحر أول انبعاث عثماني (حلف بغداد - أنقرة) كذراع جنوبية لحلف الأطلسي، مكرراً محاولة محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر، والذي نجح أيضاً في دحر الاحتلال العثماني عن الشرق العربي ومحاصرة السلطنة في عقر دارها في إسطنبول، وذلك قبل أن ينسحب تحت تهديد أساطيل الاستعمار البريطاني والقيصرية الروسية والنمساوية، وهو ما تكرر ضد عبد الناصر والعرب في عدوان حزيران 1967، ثم عبر رجل الرجعية النفطية والبنك الدولي والانفتاح الاقتصادي أنور السادات، مقدمة وتحضيراً لاتفاقيات "كامب ديفيد"، كما باستهداف الحلقات القوية الأخرى في الأمة، وتكسيرها حلقة إثر حلقة، باستثناء سوريا التي صمدت باستعادة لغة المقاومة والتاريخ والقواسم المشتركة مع الجار الإيراني في الإقليم، كما مع روسيا.
شرق أوسط من دون عرب وإيرانيين
منذ عقود والأدوات المتعاقبة للإمبريالية الأميركية (جمهورية وديموقراطية)، ومثلها حكومات العدو الصهيوني والمتروبولات الرأسمالية في أوروبا، تسعى إلى تفكيك الشرق الأوسط الكبير، من شمال أفريقيا إلى أفغانستان، واستبدال خرائط وحدود دامية وهويات طائفية جديدة به، مستخدمة كل الأشكال والأدوات الخشنة والناعمة، من أقلام الاستخبارات، إلى المنابر الإعلامية، إلى الثورات الملونة، إلى الجماعات الأصولية التكفيرية والليبرالية على حدّ سواء، إلى الأعمال الإجرامية العدوانية العسكرية.
وفيما كانت المتروبولات الرأسمالية الأخرى تقدم الخدمات المختلفة لهذا السيناريو، وكانت الرجعية النفطية العربية تقدم المال والإعلام وصفقات السلاح المعلنة والسرية، كانت العثمانية الجديدة جزءاً أساسياً من هذا السيناريو والضلع الثالث منه، إضافة إلى واشنطن وتل أبيب، وتحت شعار علني واضح وصريح: ولايات عثمانية وكانتونات طائفية متصهينة بديلاً للشرق الحالي.
ولم يكن المثلث اليهودي النظري بعيداً من ذلك: برنار لويس، ليو شتراوس، ونوح فيلدمان، وهم المشبعون بالصهيونية وفكرة الانبعاث العثماني معاً. وقد تجلّى كلّ ما سبق بأشكال من الجيوب العميلة الجديدة، ومن التقاسم الوظيفي الصهيوني - العثماني ضد العرب والإيرانيين:
- صهيونياً، بتوسيع الدور الإقليمي لهذا الكيان من فلسطين المحتلّة إلى الخليج، وبالتعامل مع بقايا الضفة الغربية وسلطة أوسلو والأردن كمجال حيوي و"دولة وسيطة" ليس إلا، جغرافيا وسكان لا قوى سياسية ومدنية، وكان من مظاهر ذلك إطلاق مشاريع عديدة مثل سكة الحديد بين حيفا والخليج، ومثل ما يقال عن مشاريع واسعة لربط نيوم بـ"أشدود".
- تركياً، وتحت شعار الزعيم المنافح عن أهل السنة، راحت إدارة إردوغان تحضر لمئوية "لوزان" بوضع اليد على العديد من المناطق العربية واحتلالها وبناء أشكال مختلفة فيها، سواء كانت عسكرية أو استخباراتية مباشرة أو كانت تحت أسماء وعناوين أنظمة وسلطات رخوة، من احتلال مناطق في سوريا والعراق ونهب مواردها، إلى مدّ النفوذ الاستخباراتيّ إلى مصراتة وغرب ليبيا، والبدء بإعداد قائمات بـ"الرعايا الأتراك" من مواطني الدول المجاورة.
والمعروف أن البرجوازية التركية نفسها التي تبنّت العلمانية من أجل الدخول في الاتحاد الأوروبي، عادت لتتبنّى شعار حماية أهل السنّة من أجل المنافسة على أسواق الشّرق وموارده.
في المقابل، كان حلف المقاومة والممانعة، العربي - الإيراني، يعزّز مواقعه انطلاقاً من تشخيص وطني لقانون التناقضات: التناقض الأساسي مع الإمبريالية، والتناقض الرئيس مع العدو الصهيوني، وتجليات التناقضين في الرجعية والتبعية.
ومقابل الجيوب الصهيونية العثمانية، كانت الخواصر المقاومة تتسع وتزداد تجربة وقوة على مستوى الإقليم هنا وهناك، ومن لبنان إلى فلسطين إلى باب المندب.
وإضافة إلى ما يحقّقه حلف المقاومة والممانعة بمراكزه الرسمية وخواصره المقاتلة من صمود وتقدم على كل الجبهات، فمن المؤكد أنه يعيد في الوقت نفسه رسم خارطة جديدة لشرق أوسط وطني مقاوم، وفق حقائق التاريخ والجغرافيا ومكانة العرب والإيرانيين ودورهم فيها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً