هزيمة حزيران67 في ضوء المشهد الراهن
تناقش هذه القراءة هزيمة حزيران ضمن منظورين:
الأول: محاولة الخروج من الموديلات الأيديولوجية الشائعة عن الهزيمة.
الثاني: لفت الانتباه إلى سر هذا الاهتمام المفاجئ والمسعور بالهزيمة، بينما تتكسّر أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" في رمال غزة أمام الصمود الأسطوري لأبطال طوفان الأقصى.
فيما يخص المنظور الأول، من المهم مراجعة ظروف هزيمة حزيران ودراسة أسبابها ودروسها من أجل تجاوزها وتأسيس نهوض وطني كبير على مستوى الأمة. وأنجزت دراسات واسعة بشأن ذلك، تباينت في قراءتها واجتهاداتها وخلاصاتها من التركيز على العامل الخارجي إلى التركيز على العوامل الداخلية، سواء أخذت شكل المراجعات الطبقية التي حمّلت البرجوازية الصغيرة وخطابها التوفيقي مسؤولية الهزيمة، أو أخذت شكل المراجعات الديمقراطية التي عدّت غياب التعددية السياسية والحزبية المسؤولَ عن الهزيمة.
وهناك من عدّ هزيمة حزيران امتداداً لهزيمة عام 1948 ونتيجة للانفصال السوري وعدم دفاع عبد الناصر عن تجربة الوحدة، وتحوله عن شعار وحدة الهدف إلى شعار وحدة الصف.
كما تراوحت القراءات والاجتهادات بشأن انعكاسات الهزيمة وتداعياتها، من الدعوة إلى عدّ المقاومة الشعبية هي الرد الطبيعي على هزيمة الدولة القطرية، إلى الدعوة إلى العمل من خلال شكل جديد للدولة، أخذ عند البعض طابع الدولة الديمقراطية، بينما أخذ عند آخرين أشكالاً أخرى، تراوحت بين الإسلام والاشتراكية الماركسية.
وفي المحصّلة، تحولت المراجعات المتعددة بشأن هزيمة حزيران إلى موديلات أيديولوجية وسياسية منافسة، وصار لها مدارس وأنصار ومشايعون وخصوم ومتحفظون... إلخ.
صحيح أن النظام الناصري أقرب إلى صيغة البرجوازية الصغيرة، وكان نمطاً من الديكتاتوريات المحمولة والمقبولة شعبياً، في مواجهة الابتزازات الإمبريالية، إلا أن ربط هذه الطبيعة للنظام بالهزيمة ليس محتّماً.
ثمة برجوازيات صغيرة قادت معارك وطنية ناجحة مهمة، وثمة ديكتاتوريات وطنية نجحت في التصدي للعدوان الخارجي، وفي بناء حالة ممانعة تاريخية. ومن نماذج هاتين الحالتين مهاتير محمد في ماليزيا وكاسترو في كوبا، بل إن الحالة الأسوأ من رواسب الناصرية، وهي حالة السادات، حقّقت انتصاراً عسكرياً في حرب تشرين، بددته المناورات السياسية.
فالمسألة، إذاً، ليست مسألة موديلات أيديولوجية متصارعة، بقدر ما تحتاج إلى وقفة موضوعية من دون إرغامات أو إقحامات مسبّقة الصنع. وأعتقد أن الهزيمة، في ضوء ذلك، لم تكن محتَّمة في ظل التوصيفات السائدة للنظام الناصري بصفته ديكتاتورية البرجوازية الوطنية، وكان من الممكن أن يحقق هذا النظام إنجازات أكبر في حرب تشرين لو ظل عبد الناصر في قيد الحياة، بحيث نعرف أن خطة العبور (غرانيت 1 وغرانيت 2) تمت في عهد عبد الناصر، وهو ما يعني أن هزيمة حزيران في جانبها الرئيس هي هزيمة عسكرية، خدمتها الطبيعة الاجتماعية للبرجوازية الصغيرة أكثر مما كانت سبباً حاسماً لها.
وفي المقابل، فإن الوثائق التي نُشرت بعد حزيران، وخبرة التجارب المماثلة، تضع هذه الهزيمة في موقع مشابه لما تعرّض له محمد علي وابنه إبراهيم باشا عام 1840.
وليس مصادفة أن صعود عبد الناصر، كما صعود محمد علي، بالكاد استغرق عشرة أعوام قبل العدوان عليهما، كما أن مشروعهما بشأن توحيد مصر مع بلاد الشام كان السبب المباشر للتحالف الاستعماري الواسع ضدهما. وبالمثل أيضاً، فإن حجم الضغط الدولي، مقارنة بالتجربة القصيرة لهما، يفسر جانباً من حجم الانكسار العسكري الذي افتقد هجوماً معاكساً فعالاً.
وإذا كان الشرق الأوسط العربي لا يزال أخطر المناطق المحيطة بقلب العالم المتحرك، بحسب استراتيجيات الجغرافيا السياسية، فلقد كان خطر اتحاد مصر وسوريا على المصالح الأوروبية والرأسمالية، في عهدَي محمد علي وعبد الناصر، أكبر بما لا يقاس مع أيامنا هذه، وكان لا بد من تحطيم أي قوة تحاول السيطرة على هذا القوس البري – البحري، وخصوصاً بعد شق قناة السويس واكتشاف النفط.
وإذا كانت دولة العدو اليهودي هي التي تكفّلت هذا العدوان، فلقد تم تزويدها بقوة عاتية خدمتها الطبيعة البيروقراطية، وتردد عبد الناصر في القيام بالضربة الأولى، بل إن استراتيجية عبد الناصر إزاء هذا العدو مسؤولة في الدرجة الأولى عن الهزيمة، بحيث لم يغادر عبد الناصر فلسفة "حافة الهاوية" من دون الاستعداد لاشتباك عسكري واسع يتزامن مع الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدور الوطني الكبير الذي أدّاه عبد الناصر على مستوى حركات التحرر.
في غياب دولة وطنية، مثل الدولة الناصرية، لعل تجربة المقاومة اليوم، بكل تعبيراتها وامتداداتها، تشكل رافعة تاريخية لنهوض الأمة، باشتباكها المباشر مع التحالف الامبريالي الصهيوني، وإعادة الاعتبار لبرنامج حركة التحرر الذي أخفقت الدولة القطرية العربية عموما في حمله وترجمته.
أما المنظور الثاني، فهو حجم الاهتمام الإعلامي اللافت على مشارف ذكرى الهزيمة عند أكثر من محطة وفضائية وصحيفة عربية واسعة الانتشار. ولا يسعى هذا الاهتمام لمراجعة ظروف الهزيمة ودروسها بقدر ما يبدو إعلاماً موجهاً لتسويق وعي الهزيمة وتأييده ونعي الأمة وقدرتها على النهوض مجدداً.
ويترافق هذا الإعلام مع مناخات مغايرة تماماً لحزيران عام 67 وعام 82، فحزيران الراهن يشهد تطوراً غير مسبوق في قدرة المقاومة ومحورها ومراكزها الشعبية والرسمية في كل ساحات المواجهة، والأهم فيه إمساك المحور بزمام المبادرة في الميدان العسكري، وفضح العدو الذي يعوض إخفاقاته الميدانية أمام المقاتلين بذبح المدنيين وقتلهم بغطاء إمبريالي أميركي – أوروبي.
وفي مقابل المراجعات السلبية والعدمية عند أوساط واسعة ثقافية وسياسية رافقت هزيمة حزيران 67، فإن تجربة المقاومة ابتداء من تموز 2006، وانتهاءً بطوفان الأقصى، بدأت تنتج حالة مراجعة مشتقة من الواقع ومشتبكة مع السرديات الإمبريالية والصهيونية، ومؤهلة لتأسيس خطاب نهضوي مقاوم جديد مغاير لثقافة الهزيمة وأوهام الليبرالية وشعارات الربيع العربي المبرمجة في مطابخ الاستخبارات الغربية.