فلسطين تصوّب البوصلة
بعيداً من التأويلات الإشكالية للخلفية العامة التي سبقت أيام البطولة والصمود في غزة والضفة وفلسطين المحتلة، وما راكمته في رصيد الشعب الفلسطيني ومعسكر المقاومة،
بما في ذلك محاولات أخذ ما جرى إلى مناخات المفاوضات الأميركية الإيرانية حول الاتفاق النووي، من المؤكّد في حساب الرابحين والخاسرين، تقدّم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، ومعه معسكر المقاومة، في قائمة اللاعبين الفاعلين في الشرق الأوسط، مقابل هزيمة العدوّ وقوى التطبيع والرجعيّة وتراجعهم، كما قوى النفاق السياسي، مثل تركيا، إضافةً إلى مؤشرات اضطراب لا تخفى عن أحد في لعبة بايدن، والتي تتمثّل بتأكيد دعم الكيان وبيع العرب والفلسطينيين أوهاماً حول مراجعة أميركية محتملة، ولو محدودة.
بعيداً من كلّ ما سبق، لا بدَّ من التأكيد ابتداء أنَّ الصفحات المجيدة التي سطّرها الفلسطينيون بالدّم والبطولة، ومعهم أحرار الأمة والعالم، وفّرت الشروط الموضوعية لمرحلة جديدة من المراجعات السياسية والفكرية، الغائبة أو المغيّبة، التي قادت إلى ما نحن عليه، من الاستعدادات الشعبية الفلسطينية الكبيرة لبذل المهج والأرواح والدماء في كل مناطق فلسطين، وباستخدام كل الأدوات والأسلحة المتاحة، من الصواريخ إلى الحجارة، إلى وحدة هذه المناطق، الأرض والشعب والهوية، إلى الالتفاف الشعبي الكبير لكلّ أبناء الأمة حول هذا الصمود، إلى كذبة اليمين واليسار في كيان يعدّ ثكنة عسكرية اجتماعية عنصرية.
والأهمّ إعادة الاعتبار إلى القضيّة الفلسطينيّة كقضية مركزية للأمة كلها، وليست نزاعاً فلسطينياً- إسرائيلياً أو نزاعاً دينياً بين المسلمين واليهود، وهو ما يقتضي عدم الخلط بين المقدسات وأهميتها وموقعها في وجدان المؤمنين في كل مكان، وتشخيص طبيعة الصّراع التاريخيّة، فالصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع مع ما يمثله في الاستراتيجية الإمبريالية وأدواتها من قوى الرجعية العربية والتبعية والطائفية والتجزئة. كما تنبغي الإشارة هنا إلى أن المقدسات الدينية المعنية تشمل المقدسات المسيحية، مع التذكير بالمطران كبوجي وأبونا مسلّم والمطران عطالله حنا، جنباً إلى جنب مع المقدسات الإسلامية. ومن المعيب والمشبوه تجاهل هذه الحقيقة.
ومن الدروس الأخرى المهمة، وحدة المقاومين على مستوى الإقليم والأمة، ودور هذا المستوى في تزويد المقاومة بأسلحة أرهقت العدو، ودفعته إلى الملاجئ، ومنعته من التقدم براً، بسبب قوة الردع التي وفّرها معسكر المقاومة، ممثلة بصواريخ الـ"كورنيت" التي استخدمها "حزب الله" في تموز/يوليو 2006، وأجبرت العدو على الانسحاب خائباً ذليلاً، إلا أنَّ كلّ ما سبق لا يبدّد المخاطر والأوهام تلقائياً، في ضوء التجارب السابقة التي أظهرت المسافة بين الطاقة العظيمة الكفاحية للشعب الفلسطيني واستعداده للقتال، مهما بلغت التّضحيات (مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى في سجون العدو)، والميل العام لغالبية القوى والفصائل، ولا سيما الأساسية منها، إلى التكيّف مع المشاريع والمناخات التسووية الموهومة، وبالمنطق نفسه كل مرة، وهو وضع العربة قبل الحصان، والحديث عن جلد الدب والصراع عليه قبل صيده.
لا تنطلق المخاوف السابقة من فراغ أيضاً، بالنظر، أولاً، إلى الطبيعة الاجتماعية والثقافة السياسية السائدة بألوانها المختلفة، من أطراف في التجربة السابقة لدى العديد من القوى الأساسية في منظمة التحرير، إلى أطراف أساسية في التجربة الجديدة، وبالنظر، ثانياً، إلى العديد من التحالفات والتجاذبات الإقليمية والدولية التي تدرك أهمية الملف الفلسطيني في أية مقاصات وخرائط وترتيبات سياسية واقتصادية. وبات معروفاً أنَّ المتروبولات الدولية، مثل واشنطن والعواصم الأوروبية وتقاطعاتها الإقليمية، العربية والعثمانية الجديدة، تتحرك ضمن أكثر من سيناريو، منها:
1- كونفدرالية الأراضي المقدسة والإبراهيمية المزعومة التي تنحطّ بالصراع إلى مستوى طائفي، وتسعى باسم الإبراهيمية المذكورة لربط الضفة والقطاع مع الأردن والخليج.
2- البانتوستانات المستمدة من تجربة جنوب أفريقيا (ممالك قبلية تدور حول المركز الأبيض).
3- صيغة أقل من إيرلندا الجنوبية، مقابل صيغة بلفاست في إيرلندا الشمالية. وقد تشمل هذه الصيغة الضفة أو القطاع.
4- محاولة جر مصر والأردن إلى صيغة تذكّر بالوضع السابق قبل حزيران/يونيو 1967 مع تعديلات عليها (موانئ ومطارات وغيرها)، بحيث يشرف الأردن ومصر أمنياً على هذه المؤسسات المقترحة أو على أية مشاريع مماثلة، ولكن في إطار كونفدراليات مقترحة معدلة.
5- مشروع "البنيلوكس" الذي طرحه بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" (مركز إسرائيلي ومحيط أردني فلسطيني).
هذا عن السيناريوهات المقترحة المذكورة للالتفاف على ما أنجزه الشعب الفلسطيني، ومعه معسكر المقاومة، خلال الأيام الماضية. أما عن أطراف هذه السيناريوهات، فثمة أكثر من قراءة أيضاً:
- إعادة إنتاج سلطة "أوسلو" نفسها كطرف أساسي، مع محاولة استدراج الأردن ومصر كإطار عام مشترك لذلك.
- إعادة إنتاج "أوسلو" بإشراك أطراف إسلامية، إما بالتعاون مع الأردنيين والمصريين، وإما مع الحلف القطري التركي.
يُشار هنا إلى أنَّ القراءات السابقة تنطلق من الاهتمام بفكرة السلطة والاشتراك فيها عند بعض الأوساط الإسلامية، مقابل اهتمام أوساط أخرى، مثل "الجهاد الإسلامي"، بفكرة المقاومة وتغليبها على فكرة الدولة، علماً بأن أصواتاً "إسلاموية" مهتمة بفكرة الدولة والاشتراك فيها تحدثت قبل سنوات عن إمكانية اعتراف غير مباشر بالعدو تحت عنوان الهدنة الطويلة الأمد، وبررت ذلك بصلح الرملة الذي وقعه صلاح الدين مع الحملات الصليبية، وتنازل فيه عن كامل الساحل الفلسطيني مقابل تثبيت ما أنجزه في معركة حطين.
ينبغي التأكيد إذاً أنّ القضية الفلسطينية ليست نزاعاً فلسطينياً - إسرائيلياً، وليست نزاعاً دينياً إسلامياً مع اليهود، إنما هي جوهر التناقض التناحري مع الإمبريالية العالمية وأدواتها في المنطقة، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني والرجعية العربية وقوى التبعية والتجزئة والطائفية، وهو التناقض الَّذي لا يحسم إلا على مستوى الإقليم والأمة، وعبر الكفاح المسلح، ولا معنى للحديث عن دولة أو دولتين وغير ذلك من تصورات قبل هزيمة العدو.
المهمّ اليوم، وعلى إيقاع الأيام المجيدة الفلسطينية الأخيرة وعودة الوعي إلى قانون الصراع وأطرافه وحلقاته، بناء الكتلة التاريخية المؤهّلة لاستثمار الوقفات البطولية الشعبية وما تختزنه من طاقات ثورية كبيرة.
ومن المفهوم أنَّ هذه الكتلة بطبيعتها الاجتماعية الطبقية، وبقواها وتحالفاتها وبرنامجها ومرجعياتها النظرية والسياسية المستمدة من علم الثورات وحركات التحرر المعاصرة، ينبغي أن تكون مسلَّحة بوعي عميق متحرّر من أوهام القوى الطائفية والكيانيّة والرجعيّة والاستسلاميّة وخطاباتها وثقافتها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً