قبل 13 ساعە
موفق محادين
23 قراءة

البوليفارية في مواجهة الإمبريالية

منذ أن راحت فنزويلا تتحرر من الهيمنة الإمبريالية لليانكي الأميركي الشمالي وتشكل بؤرة جديدة لقارة لاتينية على طريق بوليفار وكاسترو وجيفارا وتشافيز والليندي، وهي هدف ثابت لهذه الإمبريالية ودسائسها وحملاتها ومؤامراتها التي لم تترك أداة أو أسلوباً إجرامياً إلا واستخدمته ضد كراكاس وجمهوريتها البوليفارية. 

فمن الحصار ونهب النفط إلى الابتزاز وصناعة الثورات الملونة والمضادة، إلى الذرائع الواهية، حتى أن مؤسسة مثل نوبل أصبحت أداة طيّعة أيضاً في خدمة واشنطن، بل إنها أظهرت دائماً استعدادات مماثلة بمنحها جوائز لمنشقين مبرمجين في الدوائر الإمبريالية، في مواجهة إيران والصين وأخيراً فنزويلا، ولم يكن ذلك انتقاماً وردّاً على دولة قررت استعادة كرامتها وسيادتها على مواردها وقرارها وحسب، بل في سياق أعمّ وأوسع يتعلق بالرسالة التي قررت فنزويلا وقائداها، تشافيز ومادورو، تبنّيها وتعميمها في أرجاء القارة الجنوبية والوسطى، وهو ما يذكرنا بالتجربة الناصرية حين تحولت القاهرة إلى قاعدة لحركة التحرر العربية والأفريقية. 

نعرف أنه كما القارات والأمم الأخرى، ارتبط تاريخ أميركا اللاتينية، الجنوبية والوسطى، بالصراع مع قوى الاستعمار الأوروبي القديم ثم الجديد ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية، وكانت البداية مع التداعيات الدولية لسقوط الأندلس وبدايات الاستعمار الأوروبي وصعود شبه الجزيرة الأيبيرية، البرتغال وإسبانيا، بالتزامن مع عالم الاكتشافات الجغرافية وتطور صناعات السفن وخروجها من البحار إلى المحيطات.

في تلك الحقبة كان الفاتيكان سيد العالم الأوروبي الذي لم يتخلص بعد من نمط الإنتاج الإقطاعي، البيئة الموضوعية لهيمنة الكنيسة البابوية، فكان على ملوك إسبانيا والبرتغال أخذ مباركة البابا على مشاريعهم التوسعية، وقد كان العالم كله بالنسبة إلى البابا أرضاً واحدة منذورة لمشيئته كممثل للعناية السماوية، وله وحده الحق في التصرف بأي قطعة من الأرض وإضفاء طابع مقدس عليها، وانطلاقاً من ذلك قام بتقسيم الكرة الأرضية بين شمال لملوك إسبانيا وجنوب لملوك البرتغال. 

كما ارتبط الغطاء الأيديولوجي لهذه الحملات ببعد نظري آخر دشّن ما يُعرف بالمركزية الثقافية الغربية، التي تنطلق من فكرة عنصرية تحيل شمال العالم إلى الحضارة مقابل الجنوب البربري، الذي يحتاج إلى تمدين بل إلى إبادة، فالأرض لا تتحول من جغرافيا موحشة في الخطاب البابوي والغربي من دون تطويبها من الغرب المقدس، ويظل أهلها سكاناً أصليين (أدنى من مفهوم الشعب) في خدمة الرجل الأبيض سواء على شكل عبيد في الأرض وتجفيف المستنقعات في الحقبة الرأسمالية الأولى أم على شكل عمال في المصانع في الحقبة الإمبريالية من الرأسمالية. 

أيضاً، فيما يخص أميركا الجنوبية والوسطى تحديداً، استغل الاستعمار الإسباني والأوروبي عموماً ثقافة سائدة عند شعوب هذه القارة، وهي تكديس الذهب بانتظار آلهة بيضاء وتكريمها بالذهب عند ظهورها من قلب البحر، ما شكل عاملاً آخر من عوامل غزو هذه القارة وإبادة شعوبها ونهبها، ويُقدّر عدد الذين قتلهم الاستعمار الأوروبي واليانكي للقارتين، الشمالية والجنوبية من الشعوب بنحو خمسين مليون قتيل، جرت دباغة جلود بعضهم كما جرى مع (البوفالو) – الجاموس البري.

بعد الثورة الفرنسية تصدعت وحدة المستعمرين الأوروبيين في كل العالم واستغلت فرنسا عمليات النهب والذبح الجماعي في أميركا اللاتينية، ورسمت تقاطعات مع المقاومة فيها كما مع المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية وما تبقى من الهنود الحمر في كندا (كويبيك). 

إلى ذلك، تظهر إمبريالية جديدة في الجانب الشمالي من القارة الأميركية وتدخل في دائرة الصراع على موارد وأسواق القارة الجنوبية، هي الإمبريالية الأميركية وتطلق استراتيجيتها العالمية باسم ملء الفراغ، أي أخذ دور الإمبرياليات الأوروبية، والتي تذكّر بمبدأ أيزنهاور في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية الذي طرحته واشنطن لإقصاء لندن وباريس وإلحاقهما بالدور الأميركي. 

في أميركا اللاتينية ارتبط هذا الشعار المبكر (عدم التدخل الأوروبي بالقارّة) باسم الرئيس الأميركي "مونرو" (1758 – 1831)، لكنه سرعان ما سقط أمام مناخات وأشكال أكثر نهباً وبشاعة وإجراماً من الأوروبيين، وكرّس في هذه القارّة أنظمة ديكتاتورية دموية مرتبطة بالاحتكارات الأميركية، صارت أيضاً موضوعاً لحقل روائي عالمي باسم أدب أميركا اللاتينية. 

هذه هي الصورة العامة لمشهد القارّة اللاتينية التي تحوّل فيها سيمون بوليفار (1783 – 1830) إلى أنشودة تحرر جماعية لكل شعوب هذه القارّة، رابطاً بين وحدة مصيرها وهويتها ومصالحها وبين تحررها الاجتماعي والثقافي، وبما جعله فعلاً عبد الناصر القارّة اللاتينية في القرن التاسع عشر من حيث رؤية كل شعوب القارّة بعين الوحدة والتقدم والتحرر والاستقلال. 

يُشار كذلك إلى أهمية فنزويلا تحديداً كمركز لهذا النهوض على غرار مصر في عهد عبد الناصر وقبله محمد علي الذي تزامن مع بوليفار، ولعلهما تواصلا بشكل أو بآخر إذا عرفنا مسألتين: الأولى إقامتهما علاقات خاصة مع فرنسا في مواجهة المتروبولات الرأسمالية الأخرى، والثانية تأثير السان سيمونيين على مصر وفنزويلا في تلك الفترة (نسبة إلى أتباع سان سيمون الذي يُعد من فلاسفة الثورة الصناعية والعلم والعقل وإشراك القوى العاملة المنتجة في بناء الاقتصاد والدولة). 

في مرحلة تالية وفي مواجهة النسخة الأميركية من الاستعمار الإسباني، تسلحت شعوب القارّة بتراث وتجربة بوليفار في المقاومة والثقة بالشعب، وأضفت على هذه التجربة ملامح تستجيب للتحولات الجديدة في النظام الإمبريالي وفي العواصم الناشئة التي حوّلها اليانكي الأميركي إلى جمهوريات موز ومناجم للنحاس وغيره في خدمة الاحتكارات الأميركية. 

هكذا وكما اصطدمت واشنطن والإمبريالية عموماً مع المشروع الناصري في الشرق الأوسط وأفريقيا، اصطدمت مع الأفكار البوليفارية التي انتشرت بين حركات التحرر اللاتينية، وتجلّت في التحول الكبير الذي شهدته فنزويلا (مسقط رأس بوليفار) من خلال صعود القائد الوطني الملهم لشعبه وشعوب القارّة والعالم، تشافيز. 

مع هذا الصعود بدأت الأرض تهتز تحت أقدام الإمبرياليين في كل أنحاء القارّة، وراحت أجراس تشافيز كما كاسترو وجيفارا وخوسيه مارتي تدوّي في كل مكان، تتقدم خطوات وتتراجع أحياناً في خضم معركة التحرر الكبرى مع الإمبرياليين، وتتراجع أحياناً في سياق صعود حلزوني لا شك في آفاقه الرحبة العظيمة.

وكان ملاحظاً أن الهنود الحمر وغيرهم لم يعودوا عبيداً وأصواتاً انتخابية في صناديق البيض وشركات الكوكا والفواكه وجمهوريات الموز ومناجم النحاس، وقدموا قادة كباراً في هذا الزلزال المتواصل، من نمط إيفو موراليس (من قبيلة من الهنود الحمر) رئيساً لبوليفيا العزيزة على قلب بوليفار، وإن تراجعت مؤقتاً هي وغيرها، إلا أن المسار العام بدأ يشق طريقه الاستراتيجي على إيقاع بوليفار وتشافيز. 

بالتأكيد ثمة ملاحظات تحتاج إلى نقاش ومثابرة لتجاوزها فيما يخص المقاربات النظرية لليسار النقابي والاجتماعي والمبالغة في التعويل على صناديق الاقتراع وحدها، من دون تنظيم الشعب في مجالس منظمة حيوية، إلا أن القارّة لم تعد حديقة خلفية لأي إمبريالية، أوروبية أو أميركية. 

وقد أظهرت التجربة أن الإمبريالية لا تتورع عن استخدام أحط الأساليب وأكثرها إجراماً، ناهيك عن الخداع الديمقراطي، ولا يزال الخيار السلفادوري ماثلاً للعيان، حين نظمت دوائر البنتاغون عصابات مسلحة من رجال المخدرات لإطاحة حكومات منتخبة، وأسست قبل داعش وجبهة النصرة استراتيجية الترويع وقطع الرؤوس بمباركة رجال دين مناهضين لفكرة لاهوت التحرير عن أوساط كاثوليكية أخرى. 

وهي التجربة التي مارستها واشنطن أيضاً في إندونيسيا لإسقاط حكومة سوكارنو، حين حشدت عشرات الآلاف من المجرمين والتكفيريين، ونظمت مذابح مروعة بحق الفلاحين والعمال والطلاب المناصرين لسوكارنو، بعد أن حشدت أساطيلها حول ذلك الأرخبيل الذي تقدمت فيه قوى يسارية تحت تأثير التجربة الصينية. 

تلك التجربة الدامية ومثلها تجربة السلفادور وتشيلي، بقدر ما مثلته من خسارة لحركات التحرر، بقدر ما صارت درساً أيضاً لعموم هذه الحركات، وبينها فنزويلا البوليفارية، التي بقدر ما احترمت الخيار الديمقراطي، بقدر ما انتبهت إلى أهمية تجربة الأحياء والمجالس الشعبية، فأكثر الأنظمة ديمقراطية أو ثورية لا يمكنها الاستمرار في مواجهة إمبرياليات قوية ومتطورة ومتوحشة، من دون الاستناد إلى الشعب وطاقاته من أجل الصمود والانتصار.

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP