التطبيع في العقل الإسرائيلي.. هكذا نُخضع العرب
كانت المعضلة الحقيقية لدى المؤسّسين الأوائل للحركة الصهيونية ككيان سياسي على أرض فلسطين تتمحور حول تساؤل مركزي: هل سيقبل المحيط العربي بالـ"دولة" الصهيونية "إسرائيل"؟ والأهم، كيف سيتعاطى هؤلاء العرب الأكثرية مع الكيان الصّهيوني ذي الأقلية العددية؟
حاول زئييف جابوتنسكي، مؤسّس اليمين الصهيوني، الإجابة على هذه التساؤلات من خلال مقالته "الجدار الحديدي" التي نشرها في العام 1923م، والتي تتحدّث عن وجوب صهر الوعي العربي، من خلال القوة وعدم السماح للعرب بإحراز أي نصر، حتى يصلوا إلى قناعة بعدم إمكانيتهم هزيمة الكيان الصهيوني، وبذلك، يضطرّون إلى التعايش مع "إسرائيل" كأمر واقع ليس بمقدرتهم تغييره.
أهمية "الجدار الحديدي" تجلَّت عندما اتخذ منه ديفيد بن غوريون العمالي، عدو جابوتنسكي التاريخي داخل الحركة الصهيونية، مرتكزاً أساسياً للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، والمعتمدة بشكل مركزي على مبدأ الردع، بمعنى إيصال قناعة إلى العرب بعدم جدوى مهاجمة "إسرائيل" عسكرياً، لأن الخسائر المتوقعة من هذا الفعل أكبر بكثير من النتائج المرجوّة منه.
خلاصة الفكرة أن التيارات الفكرية والسياسية المؤسسة لـ"إسرائيل" بأجمعها كانت تخطّط للحظة التي يعترف فيها العرب، مقتنعين كانوا أو مرغمين، بأنّ "إسرائيل" كيان طبيعي في المنطقة العربية، بكل ما تحمله المفردة من أبعاد تاريخية وثقافية وسياسية.
خاضت العصابات الصهيونية حرب العام 48 بما يُسمى النكبة، وتم استخدام الخطة "دالت" المبنية على إحداث المجازر في القرى الفلسطينية، لتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وتوسيع رقعة الكيان الصهيوني.
والملاحظ أن بشاعة المجازر كانت مدروسة بعناية من قيادة الهاغاناه والإيتسل وغيرها من العصابات الصهيونية، لإحداث حالة الردع النفسي قبل العسكري في أول لقاء قتالي مباشر بين العرب والصهاينة.
ولم تكتفِ "إسرائيل" بذلك، فبعد تشكيل الكيان وتأسيس جيشها، خاضت حرب العام 1956م، وشنَّت العمليات التي من الصعب حصرها ضد الفدائيين العرب، في سبيل تحقيق كيِّ الوعي العربي، وإدخال مفهوم "الجيش الإسرائيلي لا يهزم"، الذي برز بعد نكسة العام 1967م.
ورغم ما حقّقته حرب العام 1973م من انتصار، فإنَّ توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع مصر كنتاج من هذه الحرب، رسّخ أن الخروج الإسرائيلي من سيناء تم من خلال الرضى الإسرائيلي، وليس من خلال الغلبة العربية.
في المقابل، تم إخراج الدولة العربية الأكبر من ساحة الصراع. وهنا بدأت فكرة تطبيع العلاقة العربية مع الكيان الصهيوني تأخذ المشروعية داخل الأنظمة العربية، غير أن الرفض الفلسطيني، من خلال مقاومته المسلّحة، كان يعرقل انطلاق قطار التطبيع العربي الإسرائيلي، لكن مع قبول البعض الفلسطيني بحلّ الدولتين من خلال اتفاق أوسلو، ومهما كانت دوافع هذا البعض، إلا أنه فتح الأبواب على مصراعيها أمام التطبيع العربي الإسرائيلي.
انطلق قطار التطبيع العربي الإسرائيلي. ورغم انتفاضة الأقصى في العام 2000م، فإنّ الرد العربي كان التأكيد على فكرة التّطبيع، من خلال المبادرة العربية للتسوية، المبنيّة على أنّ حلّ القضية الفلسطينية حلاً مرضياً للفلسطيني هي مدخل إلزامي لعملية التسوية والتطبيع العربي الإسرائيلي.
ولكن مع التغيّرات العاصفة في المنظومة العربية، بدءاً من احتلال العراق، ومن ثم أعاصير ما يُسمى "الربيع العربي"، وفقدان الاستقرار السياسي داخل الدول العربية، وظهور الفكر الداعشي، وفزاعة خطر المشروع الإيراني، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية داخل الممالك العربية والأسر الحاكمة، وانزياح الأميركي صوب الفكر الديني المسيحاني، وخصوصاً في عهد دونالد ترامب، بدأ الإسرائيلي يقتنع بأن عناصر التقاطع المصلحية مع البعض العربي باتت أكبر بكثير مما بين هذا البعض وفلسطين وقضية شعبها، بل يعتبر البعض العربي الّذي يبحث عن تثبيت عروشه من خلال الدعم الصّهيوني والقوة الأميركية، أنّ القضية الفلسطينية تشكل عائقاً رئيسياً أمام تعزيز علاقته مع "إسرائيل". لذا، يجب إنهاء القضية الفلسطينية بأيِّ حال من الأحوال.
انتقل مفهوم التطبيع في العقلية السياسية الإسرائيلية في ظلّ هذا الواقع العربي المشوَّه، من مرحلة التطبيع السياسي ووقف العداء العسكري إلى تأسيس مرحلة التطبيع الثقافي.
ولعلَّ "صفقة القرن"، وما تبعها من نقل السّفارة الأميركيّة إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ومن ثم ضمّ الأغوار والحديث عن بسط السيادة الإسرائيلية على أكثر من 35% من أرض الضفّة الغربية، تحت شعار استرجاع أرض "يهودا والسامرة"، في ظلِّ انتقال التطبيع العربيّ إلى تحالف استراتيجيّ مع "إسرائيل"، وتمدّده على حساب الثوابت القوميّة، ما هي إلا إشارة على موافقة عرب التطبيع على إعادة اختلاق "إسرائيل" القديمة بتاريخها التلمودي المزوّر، على حساب شطب التاريخ الفلسطيني الثابت بأيادٍ صهيونية ومباركة المطبّعين العرب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً