هبّة القدس وتوحيد الجبهة الفلسطينيَّة من جديد.
تشهد الحالة الفلسطينيَّة على وقع هبَّة القدس الرمضانية حالة شعبيَّة تتمثل في إعادة تصحيح البوصلة الفلسطينية الوطنية من جديد، بعد أن فشلت مقاربة الانتخابات في إخراج الفلسطينيين من أزمة الانقسام الداخلي؛ ذلك الانقسام الذي اعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصلحة إسرائيلية كبرى يجب الحفاظ عليها، إذ حمل الانقسام الفلسطيني السياسي بين طياته انفصالاً جغرافياً بين مكونات الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، ما أثر سلباً في وحدة الحال الفلسطينية على الصعيد السياسي والاجتماعي، وحتى الاقتصادي، الأمر الذي جعل الإسرائيلي يتجرأ على تسريع خطواته نحو حسم معركة التهويد في القدس والمسجد الأقصى المبارك.
ولَّد الصراع الدائر في مدينة القدس بين الإرادة الصهيونية المحمّلة بكلّ أساطيرها التلمودية وعنصريَّتها الاستعمارية، والفلسطيني ابن تاريخ القدس العريق وحامل هُويتها الحضارية، بقعة أمل جديدة بالنسبة إلى الفلسطينيين لإنهاء أزمة الانقسام بشكل كامل.
والأهم أنَّ ذلك يمكن أن يحوّل التهديد الصهيوني لمدينة القدس إلى فرصة حقيقية وواقعية للانطلاق من جديد في طريق الوحدة الفلسطينية، بكل ما تحمله من إمكانية إعادة توحيد الجبهات الفلسطينية مرة أخرى في وجه الاحتلال، وهو الأمر الذي سعى إلى استبعاده وإنهاء ركائزه، لتفتيت أسس الوحدة في الحالة الفلسطينية، وخصوصاً بعد أن أذاقه الفلسطيني بوحدته المبنيَّة على خيار المقاومة طعم الانكسار طوال مرحلة انتفاضة الأقصى 2000 - 2006، التي سعى جاهداً، ومن خلال مؤامرة دولية وإقليمية، إلى إيقافها وتصفير نتائجها السياسية، من خلال انتهاجه استراتيجية تهدف إلى حرمان الفلسطينيين من تثمير نتائج تلك الانتفاضة سياسياً، من خلال سياسات إسرائيلية خطط لها بدقة من أجل كيّ وعي الفلسطيني وإبعاده عن الفعل المقاوم، وخصوصاً في الضفة الغربية؛ الساحة الأكثر خطورة استراتيجياً على الأمن القومي الإسرائيلي، فهل تحمل هبة القدس الرمضانية حقاً في طياتها القدرة على إنهاء الانقسام الفلسطيني وتوحيد جبهات الفعل الفلسطيني في جبهة كفاحية موحّدة ضد الاحتلال الإسرائيلي؟
للإجابة عن هذا التساؤل، من الجدير الإشارة إلى بعض المؤشرات في المشهد الفلسطيني، والتي بدأت تظهر نتاج هبة القدس الرمضانية، أهمها:
أولاً، تحرّك الضفة الغربية السريع من الناحية الشعبية، وخصوصاً تزايد عدد الوافدين للصلاة في المسجد الأقصى، إضافة إلى احتجاجات الغضب الشعبي التي بدأت تخرج في مختلف مدن الضفة الغربية، لكن يبقى الأهم هو تزايد وتيرة العمل العسكري المقاوم ضد الاحتلال و"دولة" المستوطنين في الضفة، والذين قارب عددهم نصف مليون مستوطن، إذ دقَّت عملية زعترة البطولية ناقوس الخطر إسرائيلياً، الأمر الذي عزَّزه استشهاد الشبان الثلاثة على حاجز سالم في شمال الضفة أثناء توجّههم لتنفيذ عملية فدائية في القدس، ما جعل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تدرك تأثيرات هبة القدس الخطيرة في المشهد الأمني الإسرائيلي في الضفة الغربية، وخصوصاً مع تزايد تقديرات "الجيش" بأنَّ هناك المزيد من العمليات الفدائية التي لا يملك إنذاراً مبكراً عنها.
ثانياً، دخول غزة شعبياً وعسكرياً على خطّ المواجهة المباشرة في معركة القدس، إذ تمَّ إطلاق أكثر من 36 قذيفة صاروخية في اليومين الأوَّلين لهبة باب العمود، كرسالة واضحة للاحتلال، تؤكّد وحدة الحال الفلسطينية تجاه التغول الإسرائيلي في القدس أولاً.
ومع تزايد وتيرة المواجهات في حي الشيخ جراح، أكد قادة المقاومة في غزة، وفي مقدمتهم الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة والقائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف، أن غزة لن تترك القدس والمقدسيين وحدهم في ميدان المعركة مع التهويد والاستيطان. يُضاف إلى موقف غزة موقف فلسطينيي الشتات وفلسطينيي الداخل المحتل العام 48، الذين سطروا أروع صور وحدة الحال الفلسطينية أثناء شدّهم الرحال لإحياء ليلة القدر في المسجد الاقصى مشياً على الأقدام، بعد أن قطعت الشرطة الإسرائيلية الطريق المؤدي إلى مدينة القدس.
ثالثاً، خلقت هبَّة القدس الرمضانيّة مزاجاً فلسطينياً شعبياً وسياسياً موحّداً، أحد أهمّ مركباته إدراك الكل الفلسطيني أن لا تعايش مع الاحتلال والتهويد والاستيطان الإحلالي، وأنّ الاتفاقيات مع الاحتلال غير مجدية، بل هي غطاء لاستمرار التهويد والاستيطان واقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، من أجل استكمال الحلم الصهيوني التلمودي الأسطوري بقيام "إسرائيل الكبرى" على أنقاض الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس.
وفرض المزاج الشّعبي السياسي الجديد على البعض الفلسطيني الذي راهن على حلّ الدولتين ووقّع اتفاق "أوسلو" وما لحقه من التزام بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، أن يعود إلى مربع التحرر الوطني، بعيداً من أوهام سلطةٍ تحت سيادة الاحتلال، الأمر الذي سيفسح الطريق للاتفاق على استراتيجية وطنية فلسطينية لخوض النضال الفلسطيني ضد العدو المركزي، ألا وهو الاحتلال.
رابعاً، كشفت هبّة القدس الرمضانية عورة دول التطبيع العربي أمام الجماهير العربية والإسلامية، والزعامات العربية التي هرولت وراء سراب اتفاقيات الوهن العربي والاستسلام للإرادة الصهيو-أميركية.
من جهة أخرى، أبرزت الهبة أنَّ القدس والمسجد الأقصى ما زالا يحتلان قلوب ملايين المسلمين والعرب والأحرار في العالم، الأمر الذي جسّده حجم المشاركة الجماهيري الكبير في احتفالات يوم القدس العالمي هذا العام. أما على المستوى السياسي، فقد برز ازدياد بيانات الشجب والاستنكار والإدانة لما تقوم به "دولة" الاحتلال من مخططات استيطانية تهويدية في مدينة القدس.
خامساً، أعادت هبَّة القدس الرمضانية وما واكبها من وحدة حال فلسطينية القضية الفلسطينية، وخصوصاً قضية القدس، إلى سلّم أولويات المجتمع الدولي، مع نقل وسائل الإعلام حجم البطش والغطرسة الإسرائيلية، سواء من جنود الشرطة أو قطعان المستوطنين.
لذلك، ليس من الاعتيادي أن نجد موقفاً أوروبياً يحذّر من تداعيات استلاب المستوطنين الصهاينة للحق الفلسطيني في حيّ الشيخ جراح المهدد بالتهويد. هذا الموقف الدولي لم يكن لينشأ لولا وحدة الحال الفلسطينية حول قضية القدس.
إنَّنا نعتقد أنَّ استمرار هبّة القدس الرمضانية يستطيع جسر هوّة الانقسام الفلسطيني وإنهاءه، من خلال توحيد الجبهات الفلسطينية في معركة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، عنوانها القدس، وبالتالي توحيد كل طاقات الشعب الفلسطيني على اختلاف أماكن تواجده الجغرافي وتنوّع أطيافه السياسية في جبهة فلسطينية موحّدة قادرة على جمع كلّ القوى العربية والإسلامية والدولية لمصلحة نضالها ضد الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي افتقده الفلسطيني في سنوات الانقسام.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً