غزة وطبول الحرب الإسرائيلية
كثُر في الآونة الأخيرة الحديث عن جهوزية جيش الاحتلال تجاه الجبهة الجنوبية في غزة، والبعض تحدث عن توقيتات محددة للمواجهة العسكرية مع غزة في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، فهل فعلاً الظروف في دولة الاحتلال مهيئة للذهاب إلى مواجهة مفتوحة مع غزة؟
على المستوى العسكري، توالت التقارير الإعلامية حول استكمال مراحل الجدار التحت أرضي الذي بدأ العمل به منذ عام 2017 على حدود غزة بموازنة تصل إلى ما يقارب مليار دولار، كأحد الحلول التقنية الذكية الخلاقة كما تصفه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لوضع حد لتهديدات أنفاق المقاومة الهجومية في غزة، تلك الأنفاق التي شكّلت مفاجأة كبرى للجيش الاسرائيلي من خلال استخدامها في عمليات إنزال خلف خطوط العدو في حرب 2014.
من الجدير بالذكر أن دائرة التحصينات التابعة للقيادة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي أعلنت البدء بتنفيذ مشروع في مستوطنات غلاف قطاع غزة يسمى "طريق الحقول"، يتم بصدده تعبيد ممرات للوصول إلى حدود غزة، بحيث تنتقل الآليات العسكرية إلى غزة بسرعة في لحظة إعطاء أوامر بدء المعركة.
يُعتبر هذا المشروع من إحدى الدروس المستفادة من الفشل العسكري الإسرائيلي التكتيكي في حرب عام 2014، حيث صرح رئيس قسم التحصينات في القيادة الجنوبية "إن الهدف من المشروع هو تحقيق أقصى درجات الاستعداد العسكري في مواجهة قطاع غزة والقدرة العالية على المناورة"، الأمر الذي يتماشى على المستوى الاستراتيجي مع الخطة العسكرية متعددة السنوات التي وضعها رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي وأسماها "الزخم"، والتي تعتمد على أخذ زمام المبادرة إسرائيلياً من خلال اختيار التوقيت المناسب لبدء المعركة، ومن ثم استخدام القوة النارية الجوية بالتوازي مع المناورة البرية، بهدف استهداف منظومة القيادة والسيطرة للمقاومة، من اللحظات الأولى للمعركة من أجل إحداث فعل الصدمة التي تقلل من زمن المعركة وتخفّض من إمكانية استهداف صواريخ المقاومة للجبهة الداخلية الإسرائيلية، ناهيك عن تصريحات قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن حتمية المواجهة وأن المواجهة القادمة مسألة وقت، لذا وجب التأكيد على إتمام خطط المواجهة التكتيكية، والتدرب عليها أسبوعياً حسب التقارير الإسرائيلية.
على المستوى الإسرائيلي الداخلي، تبرز أزمة كورونا، وفشل حكومة الوحدة الصهيونية في معالجة تداعيات الوباء اقتصادياً واجتماعياً، ناهيك عن الاستخدام السياسي للوباء لحسابات مصلحية شخصية وحزبية ضيقة من قبل القيادات السياسية، مما أدى إلى اتساع الفجوة ما بين المستوطن الإسرائيلي وقيادته السياسية، مما جعل الحصانة المجتمعية للنظام السياسي الإسرائيلي مهددة، وبدأت تعاني "إسرائيل" من التفكك الاجتماعي الداخلي للمجتمع الصهيوني، التي عبرت عنه وزيرة الخارجية السابقة تسيفي ليفني بقولها "في اليوم التالي للكورونا، ستكون إسرائيل مختلفة، مررنا بأزمات أمنية واقتصادية وتغلبنا عليها، أما هذه المرة فقد انكسرت المناعة الوطنية، إسرائيل بقيادة نتنياهو تفككت إلى قبائل، هوة عميقة تفصل فيما بينها وروح الكراهية تحوم فوقها".
في مثل هذه الظروف اعتادت "إسرائيل" تصدير أزماتها الداخلية إلى العدو الخارجي واللعب على عقدة الخوف والإبادة من أجل توحيد فسيفساء المستوطنين المهاجرين اليهود المكونة للمجتمع الصهيوني.
على المستوى السياسي، في ظل تسارع التطبيع العربي مع "إسرائيل"، والحديث الأميركي عن إعادة هندسة الوضع الفلسطيني بما يتساوق مع مستقبل المنطقة بالرؤية الصهيوأمريكية، بات من الممكن الحديث عن أهداف سياسية للحرب على غزة في المستوى الاستراتيجي الخاص بترتيبات الوضع في غزة على ضوء صفقة القرن، على غرار ما حدث في حرب تموز 2006 الهادفة لولادة شرق أوسط جديد كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس.
إذا اعتبرنا أن التطبيع الخليجي عملية إسرائيلية أميركية لكيّ الوعي العربي، فحسب المنطق الإسرائيلي يجب التأكد من نجاح تلك العملية، من خلال مواجهة مع الفلسطيني لاختبار قوة التطبيع الخليجي، هذا ما حدث في حرب لبنان عام 1982 ، للتأكد من قوة اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وحدث في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012، الذي كان أهم أهدافه السياسية جس نبض النظام السياسي الجديد في مصر بعد ثورة يناير/كانون الثاني، وجدية موقفه من القضية الفلسطينية.
بناء على كل ما سبق، المواجهة العسكرية المقبلة مع غزة من الممكن أن تشكل مخرجاً واقعياً لأزمات "إسرائيل" الداخلية وأهمها الاجتماعية، ناهيك أن المؤسسة العسكرية تعاني من تآكل الردع الإسرائيلي تجاه المقاومة في غزة، وتبحث عن اختبار حقيقي لإجراءاتها الدفاعية الجديدة حول غزة، لتعيد مفهوم النصر بعد أن فقدته منذ حرب تموز/يوليو 2006، بالإضافة إلى إحداث انفصال تام ما بين دول التطبيع والقضية الفلسطينية من خلال حرب إسرائيلية على الفلسطينيين في ظل عدم توقف التطبيع.
لكن قرار الحرب في "إسرائيل" دوماً يتخذ على ضوء الإجابات على عدة أسئلة، أهمها:
أولاً، هل الوضع الراهن مريح؟ يخدم المصلحة الإسرائيلية؟ يمكن التعايش معه؟ أم أنه سيء ولا يمكن تحمله؟
ثانياً، ما هو الوضع المرجو إنتاجه مستقبلياً من جراء الحرب؟ وهل إنتاجه ممكن من خلال الحرب؟
ثالثاً، هل هناك بدائل أخرى سياسية أمنية اقتصادية لتغيير الوضع الراهن بدون اللجوء إلى الحرب؟
رابعاً، هل كلفة تغيير الوضع الراهن أقل من ثمن الحرب، أم العكس؟ وهل فعلاً "إسرائيل" قادرة على دفع ذلك الثمن؟
باعتقادنا أنه مازال هناك اختلاف في وجهات النظر الإسرائيلية تجاه الإجابة على تلك الأسئلة، من المحتمل أن تعمل على تأخير تلك المواجهة في أقل التقديرات، خاصة أن بعض الإجابات ليست مرتبطة بالقدرة والظرف الإسرائيلي فحسب، بقدر ارتباطها بقدرات المقاومة الفلسطينية في غزة، ومدى جهوزيتها للمواجهة، والظرف الموضوعي الفلسطيني المتمثل في الإجماع الفلسطيني الرافض للتعاطي مع صفقة القرن رغم كل التهديدات والإغراءات، ناهيك عن حساسية التوقيت في ظل الانتخابات الأميركية المقبلة ونتائجها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً