قبل 5 ساعە
حسن لافي
15 قراءة

نزع السلاح في غزة: بين الثوابت الوطنية وضغوط "اليوم التالي"

تتسارع الجهود الأميركية للدفع نحو الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إطار ما يُعرف بترتيبات “اليوم التالي” للحرب على قطاع غزة. وفي هذا السياق، عُقد في قطر مؤتمر موسّع ضم نحو ثلاثين دولة، خُصص لمناقشة شكل وصلاحيات قوة الاستقرار الدولية (ISF)، إلى جانب التحضير لاجتماع مرتقب على مستوى رؤساء أركان الدول المرشحة للمشاركة في هذه القوة. كما يجري الإعداد للقاء ثنائي في نهاية شهر ديسمبر الجاري بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يُتوقع أن يكون مفصليًا في رسم تفاصيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة.

في خضم هذه التحركات، تتمسك "إسرائيل" بقضية نزع سلاح الفصائل الفلسطينية في غزة باعتبارها هدفًا مركزيًا للمرحلة الثانية، ومحورًا رئيسيًا لعمل قوة الاستقرار الدولية، من منظور يضع “الأمن الإسرائيلي” في صدارة الأولويات، متجاهلًا جذور الصراع وسياقه السياسي والاحتلالي. هذا الإصرار يضع ملف نزع السلاح في قلب الجدل الفلسطيني والدولي، ويحوّله إلى اختبار حقيقي لمآلات الحرب ولشكل النظام السياسي والأمني الذي يُراد فرضه على قطاع غزة.

تُعدّ قضية نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة. فهي ليست مسألة تقنية أو أمنية بحتة، بل ملف مركّب تتداخل فيه الأبعاد السياسية والعسكرية والرمزية، كما تختلط فيه الضغوط المعيشية والإنسانية بالثوابت الوطنية الفلسطينية. فالسلاح، بالنسبة إلى قطاع واسع من الفلسطينيين، لا يُنظر إليه كأداة قتال فحسب، بل كجزء من هوية شعب يعيش تحت الاحتلال ويمارس حقه المشروع في مقاومته.

من هذا المنطلق، يمكن فهم الرفض الواضح الذي تبديه حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية لمبدأ نزع السلاح، خاصة حين يُطرح ضمن ترتيبات أمنية هدفها الأساسي ضمان أمن "إسرائيل"، أو عندما يأتي هذا الشرط في إطار تصور أميركي يحظى بغطاء من “الشرعية الدولية”. فالفصائل ترى في هذا المسار محاولة لانتزاع حق أصيل من الشعب الفلسطيني في الكفاح ضد الاحتلال، وتحويل غزة إلى كيان منزوع الإرادة والقدرة على الدفاع عن نفسه، بما يكرّس الهيمنة الإسرائيلية ويقوّض أي إمكانية مستقبلية لمعادلة ردع حقيقية.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل إدراك حماس لتعقيدات اللحظة السياسية الراهنة، وحساسية الظروف المحيطة بغزة بعد حرب مدمّرة أنهكت المجتمع والبنية التحتية. في هذا السياق، برز تحول لافت في موقف الحركة، تمثّل في إحالة ملف نزع السلاح إلى النقاش الفلسطيني الجامع، باعتباره قضية وطنية تتجاوز فصيلًا بعينه. هذا التوجّه يعكس رغبة الحركة في توزيع كلفة القرار السياسي، وعدم تحمّلها منفردة مسؤولية خيارات مصيرية، كما يفتح الباب أمام مقاربات وسطية قد تتقاطع – جزئيًا – مع مطالب إقليمية ودولية، من دون المساس بجوهر الحق في المقاومة.

ضمن هذا النقاش الفلسطيني الداخلي، وبدعم من وسطاء إقليميين ودوليين، قد تُطرح أفكار توافقية لا تصل إلى حد نزع السلاح الكامل، مثل تجميد استخدام السلاح لفترة زمنية محددة من دون تسليمه، أو وضع جزء من السلاح الهجومي تحت إشراف أو عهدة أطراف ضامنة، مع الإبقاء على السلاح الدفاعي داخل القطاع، أو ربط مستقبل السلاح بنتائج العملية السياسية بدل اعتباره شرطًا مسبقًا. ورغم محدودية هذه الطروحات، إلا أنها قد تمنح الوسطاء هامش حركة يساعدهم على دفع المفاوضات قدمًا، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف الفلسطيني الرافض للتفريط بحق المقاومة.

غير أن تحويل الخطة الأميركية إلى إطار دولي عبر قرار صادر عن مجلس الأمن يضع الفصائل الفلسطينية أمام مفترق طرق حاسم، يمكن اختزاله في سيناريوهين رئيسيين.

السيناريو الأول يتمثل في رفض القرار. وهذا الرفض قد يتخذ مسارين: الأول هو المواجهة العسكرية مع القوات الدولية أو الهياكل المنبثقة عن القرار، باعتبارها شكلًا من أشكال الاحتلال الأجنبي. غير أن هذا الخيار ينطوي على مخاطر جسيمة، أبرزها خسارة التعاطف الدولي الذي راكمه الفلسطينيون خلال الحرب، وتكريس الرواية الإسرائيلية التي تصوّر المقاومة كحركة “إرهابية” تواجه المجتمع الدولي. كما أن أي انهيار محتمل للقرار بالقوة قد يعيد الأمور إلى النقطة الصفر، ويفتح الباب أمام حرب إسرائيلية جديدة على غزة، هذه المرة بغطاء دولي وشرعية أممية، وهو السيناريو الذي تسعى إليه تل أبيب منذ البداية.

أما المسار الثاني ضمن خيار الرفض، فهو المواجهة السياسية للقرار، عبر بلورة موقف فلسطيني موحد، وخطة سياسية وشعبية تهدف إلى التأثير على آليات التنفيذ، وتعديل بعض بنود القرار بشكل غير مباشر. ويُعد هذا الخيار أقل كلفة وأكثر واقعية، خاصة إذا تلاقت الرؤية الفلسطينية مع مصالح الوسطاء الإقليميين والدول الراعية، الذين لا يرغبون في الاصطدام العسكري مع الشعب الفلسطيني أو فصائله، ولا في إعادة إنتاج مشهد حرب مفتوحة في قطاع غزة.

السيناريو الثاني يتمثل في القبول بالقرار الدولي باعتباره مرحلة انتقالية، رغم ما يحمله من تنازلات مؤلمة. أنصار هذا الخيار يرون فيه فرصة لوقف الحرب بشكل نهائي، وفتح مسار إعادة الإعمار، ومنع تقسيم غزة، مع الحصول على ضمانات من الوسطاء بعدم تعطيل "إسرائيل" لتنفيذ بنود الاتفاق أو الالتفاف عليها. ويُنظر إلى هذا المسار باعتباره أقرب إلى رؤية السلطة الفلسطينية وحركة فتح، التي تعطي أولوية للمسار السياسي وإعادة إنتاج السلطة في القطاع.

حتى الآن، تشير مواقف الفصائل، وخصوصًا حركة حماس، إلى تفضيل سيناريو الرفض، مع بقاء السؤال مفتوحًا حول طبيعة هذا الرفض: هل سيكون مواجهة عسكرية عالية المخاطر، أم مواجهة سياسية مرنة تسعى إلى تعديل موازين التنفيذ من دون الانزلاق إلى صدام مباشر مع المجتمع الدولي؟ هذا السؤال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع غزة المنهك إنسانيًا ومعيشيًا، وبمدى استعداد الحاضنة الشعبية لتحمّل كلفة خيارات جديدة بعد حرب مدمّرة.

في المحصلة، يبدو أن غزة مقبلة على مرحلة اختبار صعبة، ستتحدد نتائجها بمدى قدرة الفلسطينيين على بلورة موقف وطني موحد، وبقدرة الوسطاء الإقليميين – ولا سيما مصر وقطر وتركيا – على كبح الاندفاعة الأميركية نحو حلول تخدم المصالح الإسرائيلية أحاديًا. فالهدف الفلسطيني الأوسع يظل تثبيت الاستقرار، ومنع عودة الحرب، وفتح باب إعادة الإعمار، وإعادة تشكيل واقع يسمح للغزيين بالعيش بأمان، من دون تهديد دائم بالتهجير أو الانهيار الأمني والسياسي.

وفي هذا السياق، يبدو أن مستقبل نزع السلاح في غزة لن يُحسم بقرار دولي أو ضغط عسكري، بقدر ما سيتحدد عبر توازن دقيق بين الثوابت الوطنية الفلسطينية، والواقع الإقليمي والدولي، وقدرة الفاعلين الفلسطينيين على إدارة هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة وأكثر المكاسب الاستراتيجية الممكنة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP