انتفاضة حقيقيّة في الضفة الغربية!
يكثر بين الأوساط السياسية والإعلامية الفلسطينية والإقليمية طرح السؤالين الآتيين: ما مصير الأحداث في الضفة الغربية؟ وهل يمكن أن تتحول تلك الأحداث إلى انتفاضة؟ في اعتقادنا، هذان السؤالان يجب تغيير صيغتهما إلى الآتي: ما أسباب اندلاع الانتفاضة الحالية في الضفة الغربية؟ وما مميزات هذه الانتفاضة عن سابقاتها؟
إنّ ما يحدث الآن في الضفة الغربية من عمل مقاوم لا يخرج عن إطار تعريف الانتفاضة في الاصطلاح السياسي، وهي "حركة شعبية فلسطينية واسعة مستمرة، تخوض مقاومة شاملة ضد الاحتلال الصهيوني ومشروعه الإحلالي بكل الوسائل، وتتنوع وتيرتها بين التصاعد والخبو في الفعل المقاوم، ولكنه لا يتوقف".
دخل مصطلح الانتفاضة إلى القواميس السياسية مع انطلاق انتفاضة الحجارة الفلسطينية عام 1987، التي اتسمت بالفعل الشعبي والتركيز على العمل اللاعنفي الذي تقوده الجماهير الشعبية الفلسطينية، مع استخدام بعض أنواع العنف المنخفض الوتيرة، كإلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف على جنود الاحتلال، مع استخدام ضيق جداً للعمليات العسكرية ذات العنف الشديد ضد الاحتلال الإسرائيلي. وهنا برز دور الفصائل الفلسطينية بشكل أكبر مما كان في إدارة العمل الجماهيري، التي اكتفت الفصائل بدورها التأطيري والمساعد لحراك الجماهير الفلسطينية.
تكرس مفهوم الانتفاضة في الحالة الفلسطينية مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، التي كانت سمتها الأساسية الدور المركزي الذي قامت به الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً أذرعها العسكرية، في مواجهة الاحتلال، وتحديد وتيرة المواجهة من خلال مجموعة كبيرة من العمليات العسكرية، سواء داخل الأراضي المحتلة عام 1967 أو الداخل المحتل عام 1948، التي كانت محتكمة إلى هيكل تنظيمي واضح في تلك الأذرع العسكرية الفصائلية، ومرتبطة بقرار سياسي لقيادتها السياسية.
وفي هذا الإطار، لا يمكن إغفال تفاعل الحاضنة الشعبية الفلسطينية على امتداد الضفة وغزة والقدس مع الفصائل الفلسطينية وأذرعها العسكرية، ويعتبر مخيم جنين من الأمثلة البارزة على ذلك.
تظهر المقارنة بين انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى أنهما تشابهتا في مرتكزات التعريف الاصطلاحي، وأهمها اتساع المشاركة الشعبية أو الفصائلية والاستمرارية النضالية والتغير في منحنى وتيرتها بين الصعود والهبوط، رغم وجود اختلافات جوهرية في آليات عمل الانتفاضتين، وشكل قيادتهما، وطبيعة أدواتهما النضالية. ولذلك، اشتركتا في التسمية كانتفاضة فلسطينية.
أحدثت معركة "سيف القدس" وما تلاها من عملية "نفق الحرية" تغيراً جوهرياً في ذهنية الشباب الفلسطيني الذي لعبت "إسرائيل" وأدواتها الأمنية والاستخباراتية على قتل الأمل في إمكانية نجاح أي فعل مقاوم له في الضفة الغربية، محاولةً بذلك بناء جدار حديدي في مخيلته يمنعه من مجرد التفكير في مواجهة الاحتلال ومستوطنيه، فجاء الأسير البطل محمود العارضة ورفاقه ليحفروا ثغرة واسعة في ذلك الجدار الحديدي، أهم من وجهة نظرنا من فتحة نفق سجن جلبوع المعجز ذاته، ليرى الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس دليلاً ملموساً على إمكانية تحقيق إنجازات ملموسة في مواجهة "دولة" الاحتلال ومنظومتها الأمنية.
وبالتالي، اعتبرت عملية "نفق الحرية" نقطة انتقال الضفة إلى مرحلة الفعل المقاوم، كما أكد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الأستاذ زياد النخالة في مقابلة خاصة مع الأستاذ غسان بن جدو على قناة الميادين، حين قال "إن ما قبل عملية انتزاع الحرية كان شيئاً. وبعدها، كان شيئاً مختلفاً". هذا التحول بدأ من مخيم جنين وكتيبتها، واندفع لينتشر في مدن شمال الضفة الغربية، وصولاً إلى نابلس، ما اعتبره النخالة "انتفاضة مسلحة".
لأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن تتشابه أحداثه، نستذكر معركة الشجاعية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، في إثر هروب 5 من أسرى الجهاد الإسلامي من سجن غزة المركزي، كتأريخ فعلي لولادة انتفاضة الحجارة.
وكما مثل رد فعل الشعب الفلسطيني وفصائله على تدنيس رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون للمسجد الأقصى بانطلاق انتفاضة الأقصى، فإن عملية "نفق الحرية" استطاعت أن تشكل الشرارة الملهمة في تأسيس كتيبة جنين، لتقود حالة عسكرية وشعبية مقاومة ذات أنماط مختلفة عما اعتاده الشعب الفلسطيني في انتفاضاته السابقة.
لذلك، يعلق المراسل العسكري في "القناة 13" الإسرائيلية ألون بن دافيد بشأن ما يحدث في الضفة خلال الأشهر الأخيرة: "إنه انتفاضة من نوع آخر تختلف عما شهدناه في الثمانينيات وعام 2000"، ولكن هذه الانتفاضة، بحسب تقديرات الأمن الإسرائيلي، استطاعت توفير البيئة الحاضنة التي تسهل انخراط الشباب الفلسطيني في العمل المقاوم العسكري بشكل واسع، الأمر الذي خلق شكلاً جديداً لطبيعة العمليات الفدائية المرتكزة على الفدائي غير المرتبط بهياكل تنظيمية تقليدية على غرار ما كان في انتفاضة الأقصى.
وبالتالي، لم يعد العمل العسكري يقتصر على الفصائل الفلسطينية وأذرعها العسكرية، بل تشكلت حالة شعبية فلسطينية تحوّل بها كلّ شاب فلسطيني إلى مشروع فدائي يمكنه تنفيذ عملية فدائية في التوقيت والمكان والظرف الذي يختاره.
لم تنجح "إسرائيل" بكل منظوماتها الأمنية في محاصرة انتشار الانتفاضة الفلسطينية، المنطلقة من مخيم جنين، كما انطلقت انتفاضة الحجارة من مخيم جباليا. وما حدث من تنامي ظاهرة إطلاق النار على المواقع الإسرائيلية على امتداد الضفة الغربية يعتبر مؤشراً حقيقياً إلى اتساع دائرة المشاركة الفلسطينية في الانتفاضة، فعندما تتحدث الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على لسان رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" رونين بار، عن حدوث أكثر من 130 عملية إطلاق نار في الضفة الغربية حتى بداية شهر أيلول/سبتمبر 2022، مقارنة بـ98 عملية خلال عام 2021، و19 عملية في 2020، فهذا الأمر يؤشر من دون أدنى شك إلى أن عمليات إطلاق النار ليست موجة عابرة سرعان ما تنحسر أمام احتياجات الفلسطينيين الحياتية، كما يحاول الإعلام الإسرائيلي الموجه أمنياً ترويجه، بل تمثل انتفاضة مسلحة يأخذ منحناها الثوري بالتصاعد،
الأمر الذي يؤكده توزع وانتشار جغرافية العمليات الفدائية، وخصوصاً بعد دخول القدس ورام الله والأغوار وجنوب الضفة على خط العمليات الفدائية، لتسجل عام 2022 (حتى الآن) أكثر من 150 عملية فدائية تم تنفيذها، مقارنة بـ91 عملية فدائية عام 2021، كدلالة واضحة على استمرارية الانتفاضة المسلحة في الضفة الغربية.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.