الأولويّة الغائبة
يحدّثنا التّاريخ عن أنّ حركات التحرر الوطني تحتاج إلى برنامج جامع لكلّ أطياف الحالة الوطنية، في سبيل تأطير كلّ جهودها الثورية بالاتجاه الصحيح الذي يحدد البرنامج الوطني بوصلته السّليمة، والأهم أنَّ هذا البرنامج يحقّق الاتفاق بين الجميع، لكي لا تصل محصّلة الجهود الثوريّة إلى المعادلة القائلة إنَّ مجموع القوى الفاعلة يساوي صفراً، لكونها تسير في اتجاهات متناقضة ومتعارضة.
تحتاج الحالة الفلسطينيّة كحركة تحرر وطني تخوض معركة وجود متعددة المستويات والاتجاهات مع الحركة الصهيونية الإحلالية لكل ما هو فلسطيني، بدايةً وقبل أي شيء، إلى وحدة فلسطينية وطنية على أساسات حقيقيَّة مبنية على برنامج وطني متفق عليه، يحفظ حقّنا كشعب فلسطيني في الداخل والشتات بالتحرر من الاحتلال، وينهي حالة الانقسام المسيطرة على المشهد السياسي الفلسطيني، والتي ألقت آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بظلالها السلبية على القضية الفلسطينية بشكل كبير.
لذلك، الأحاديث عن انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة ومجلس وطني على التوالي، بدءاً من شهر أيار/مايو القادم، ستكون خطوة مهمة، ولكنها ستبقى ناقصة ما لم تسبقها خطوات تحصّن الحالة الفلسطينية من الانقسامات ما بعد خروج نتائج الانتخابات، أهمها:
أولاً، على المستوى السياسيّ، يجب أن يسبق الانتخابات اتفاق وطني على السقف السياسيّ الذي سيتمّ انتخاب قيادة الشعب الفلسطيني بناءً عليه، سواء في التشريعي أو الرئاسة أو المجلس الوطني، بمعنى برنامج وطني مجمع عليه فلسطينياً لتحقيق عمليّة التحرر الوطني الفلسطيني من الاحتلال كهدف استراتيجي، من خلال الاتفاق على تكتيكات إدارة الحالة الفلسطينية وطنياً، بما لا يتناقض مع الهدف الاستراتيجي.
الاتفاق على برنامج وطني فلسطيني جامع ليس أمراً معقّداً، وخصوصاً مع تواتر الحديث عن إمكانيّة توصّل حركتي "فتح" و"حماس" إلى التفاهم والاتفاق على خوض الانتخابات في قائمة انتخابية واحدة تمثل الحركتين أو تمثل مجموعة من الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، بمعنى اتفاق على برنامج انتخابي واحد ذي برنامج سياسي واحد، وبالتأكيد تشكيل حكومة وحدة وطنية بينها بعد الانتخابات.
لذا، يبقى التّساؤل المشروع: لماذا لا يتمّ إذاً الاتفاق على إتمام المصالحة وإنهاء الانقسام، من خلال صياغة برنامج وطني فلسطيني قبل الذهاب إلى الانتخابات، لكون مجرد الحديث عن القائمة المشتركة دليلاً واضحاً على مدى إمكانيّة الاتفاق والتفاهم بين الحركتين.
لذا، نعتقد أنَّ من الضروري أن ينصبّ هذا الجهد السياسي الفلسطيني على صياغة اتفاق وطني يحمي الحالة الوطنية من الانقسامات في المستقبل، وينظّم الجهود الفلسطينية في اتجاه واحد متفق عليه من الكل الفلسطيني في الداخل والشتات.
ثانياً، على الصَّعيد الشّعبيّ، وخصوصاً أهل قطاع غزة، يجب على قيادة السّلطة الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس أبو مازن، إعادة كلّ حقوق غزة التي تمّ حرمانها منها، كخطوة أساسية في إتمام عملية المصالحة ورأب الصدع الوطني، والأهم تعزيز ثقة المواطن بجدية خطوات المصالحة هذه المرة بعد خيبات كبيرة تجرّع مرارتها المواطن المسحوق، لأن الّذي يسعى إلى الانتصار في المعركة ضد الاحتلال يجب أن يمتلك الحاضنة الشعبية القوية والداعمة والمساندة لنضاله الوطني، والتي تعتبر مصدر الإمداد اللوجستي الأساسي في أي مواجهة مع العدو، وخصوصاً أن الاحتلال بات يدرك أهمية تفتيت الحاضنة الشعبية للمقاومة، الأمر الذي جعله يستخدم الحصار الاقتصادي وتجفيف الموارد المالية لتدعيم صمود الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في غزة، هدفاً أساسياً في استراتيجيته السياسية والعسكرية والاقتصادية ضد المقاومة الفلسطينية، من أجل الوصول إلى مرحلة تتآكل فيها الحاضنة الشعبية الداعمة لخيار النضال والمقاومة ضد الاحتلال.
في الخلاصة، باعتقادنا، إنَّ الوحدة الوطنية ليست كلمة تتحقَّق من خلال مرسوم انتخابي، لكون الانتخابات ليست الهدف بحدّ ذاتها، وخصوصاً أن أيّ جهة ستفوز بها ستصطدم بواقع أن الشعب الفلسطيني ما زال يرزح تحت الاحتلال الذي يتحكم بكل تفاصيل حياته تقريباً، ناهيك بأن الدعم الخارجي للسلطة الفلسطينية مرتبط باتفاقيات التسوية والاعتراف بـ"إسرائيل" وشروط الرباعية الدولية، الأمر الذي يجبر الكل الفلسطيني، قبل الذهاب إلى الانتخابات، على التوافق على برنامج وطني واضح يواجه تلك التحديات الخطيرة التي كانت سابقاً سبباً للانقسام الفلسطيني.
لذلك، إنّ الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة ذات استحقاقات وطنيّة كبيرة. من أراد إنجازها، فعليه دفع استحقاقاتها. وبالتأكيد، تلك الاستحقاقات لن تكون خسارة لدافعها، بل سترفع من شأنه أمام مصدر الشرعية الحقيقية، وهو الشعب الفلسطيني المناضل.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً