قراءة في المواقف والمآلات بعد جريمة جنين
نفّذ جيش العدو الإسرائيلي عملية عسكرية عدوانية استهدفت مخيم جنين المحتل، أسفرت عن استشهاد عشرة فلسطينيين، وإصابة عدد آخر بجروح متنوعة، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل ومواقف من مختلف الأطراف،
دلّلت على أن التحذيرات من سياسات حكومة نتنياهو الفاشية، كانت في محلها، إلّا أن تسلسل الأحداث وتسارعها، عكسا الفشل الذريع لأي رهان على عقلنة حكومة العدو، وعجز مختلف الأطراف الدولية والإقليمية أو عدم رغبتها في كبح العدوان على الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يُبقي الكرة في الملعب الفلسطيني، لمواجهة التغول الفاشي الصهيوني.
تشهد الساحة الفلسطينية ارتفاعاً في مستوى جرائم العدو، وتصاعدت وتيرة الأحداث، كمّاً ونوعاً، منذ تنصيب حكومة اليمين الفاشي الصهيونية، والتي افتتحت سلسلة جرائمها باقتحام الوزير الفاشي إيتمار بن غفير للمسجد الأقصى، وأعقبتها اقتحامات متكررة لقطعان المستوطنين، وأداء طقوسهم التلمودية ورفع علم العدو في باحات الحرم القدسي، بالإضافة إلى اغتيال عدد من الفلسطينيين، واقتحام الخان الأحمر والتحضير لهدمه وتهجير سكانه، وهدم قرية العراقيب في النقب المحتل، ومحاربة رفع العلم الفلسطيني، ومنع الاحتفال بتحرير الأسيرين كريم وماهر يونس، وسلسلة من الجرائم، آخرها جريمة جنين، التي رفعت عدد الشهداء، منذ ما يقرب من شهر، إلى أكثر من 30 شهيداً وعشرات الإصابات.
تكشف جريمة العدو في جنين حقيقة السياسة الأمنية التي تتبناها حكومة نتنياهو تجاه الجبهة الفلسطينية، التي تُعَدّ أحد التهديدات الاستراتيجية للعدو خلال العام الحالي، ويخشى أن تتطور لمواجهة واسعة في شهر رمضان المبارك في الربيع المقبل، ويسعى، من خلال الاغتيالات والاقتحامات التي ينفذها في جنين ونابلس، للحدّ من قدرات خلايا المقاومة وتحويلها إلى حالة دفاعية وإجهاض مساعيها لمراكمة القوة والخبرة في مواجهته وتنفيذ عمليات هجومية على معاقله، ولا سيما في ضوء تقديره للموقف الميداني في شهر رمضان. كما يهدف إلى منع انتقال نموذجَي جنين ونابلس إلى سائر مدن الضفة الغربية المحتلة، ولا سيما في جنوبي الضفة، الأمر الذي يرجح استمراره في سياسته الهجومية والإحباطية.
لا يخلو اقتراف العدو جريمته في جنين من دواعٍ داخلية، تهدف إلى الهروب إلى الأمام، نتيجة تصاعد حدة الاستقطاب الداخلي، ولجوء المعارضة إلى الشارع، والتلويح باللجوء إلى الإضرابات والاعتصامات، وحتى العصيان المدني، في حال لم تتراجع حكومة نتنياهو عن التغييرات و"الإصلاحات" في المنظومة القضائية، والتي تَعُدّها المعارضة انقلاباً على الأسس التي "نشأ عليها الكيان"، والتي تشكل حماية له، داخلياً وخارجياً، وإحدى أدوات القوة الناعمة تجاه المجتمع الغربي.
كما يسعى نتنياهو لتوثيق تحالف حكومته اليميني، وتصدير التهديد الأمني إلى كل الجبهات (الفلسطينية، الشمالية، إيران) في أجندة حكومته والرأي العام الداخلي، والتي يستطيع من خلالها الحد من الخلافات، سواء داخل حكومته أو خارجها، إلّا أن نتنياهو يدرك أنه لن يحل المعضلة الرئيسة، وهي كيفية تسكين مختلف الجبهات، والتفرغ بصورة أكبر لتحقيق الهدفين الأساسيين في سياسته الخارجية، وهما مواجهة التهديد النووي الإيراني، وإنجاز التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وهما أولويتان أقل أهمية لسائر أركان حكومته، وللمعارضة أيضاً.
فأحزاب اليمين القومي، ولا سيما حزبا الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، تركز على سياسات التهويد والاستيطان والضم والعدوان تجاه الضفة الغربية والداخل الفلسطيني والقدس المحتلة والأسرى، بينما أحزاب اليمين الديني، ولا سيما حزبا شاس ويهودت هاتوراه، لها أهداف دينية توراتية، وتحقيق مطالب قواعدها ومدارسها الدينية والمادية، والتزام تعاليم التوراة أكثر من القوانين المدنية، مع اهتمام أقل بالشأن السياسي، بينما تذهب المعارضة في اتجاه السعي لإسقاط الحكومة، باعتبارها خطراً على الديمقراطية والعلمانية في الكيان، الأمر الذي يعكس تعقيدات الموقف أمام نتنياهو، الذي يدرك أن سياسة حكومته الخارجية محكومة بالمحددات الداخلية، وسينطلق في سلوكه تجاه مختلف الملفات انطلاقاً من المؤثرات في البيئة الداخلية.
سعت الأطراف الدولية والإقليمية لاحتواء الموقف بعد حادثة جنين. وكالعادة، ركّزت الجهود على منع تدهور الأحداث لمواجهة عسكرية بين العدو والمقاومة في قطاع غزة، بالإضافة إلى منع السلطة الفلسطينية من اتخاذ قرار وقف التنسيق الأمني مع العدو، إلّا أنها لم تنجح، نظراً إلى فداحة العدوان في جنين، والعدد الكبير للشهداء. فالسلطة قررت بالفعل وقف التنسيق الأمني، والذي قد يكون حقيقياً بخلاف المرات السابقة، التي أُعلن فيها وقفه نظرياً، وذلك في ضوء الخطر المحدق بوجود السلطة ومصيرها، وفي ضوء فقدان الأمل في قدرة المجتمع الدولي على دفع "إسرائيل" إلى التزام الحد الأدنى من القانون والشرعية الدوليين، اللذين تلتزمهما السلطة من طرف واحد، وتتنكّر لهما حكومات العدو المتعاقبة، إلّا أنها حافظت على رغبتها في بقاء السلطة بسبب حاجتها الأمنية إليها، بينما لم تكترث الحكومة الحالية لهذا المعيار، ويبدو أنها ستضيق الخيارات المتاحة للسلطة.
فرضت معركة سيف القدس معادلة الربط بين الساحات، وتسعى المقاومة للمحافظة على هذه المعادلة، من دون أن تؤثر في الحالة الثورية في الضفة الغربية المحتلة، بينما سعى العدو لإجهاض المعادلة الفلسطينية، إلّا أنه أقّر بصعوبة مساعيه، وبدأ يتعامل مع الساحة الفلسطينية كجبهة واحدة، لا يمكن الفصل بينها. وانعكس ذلك على سياسته الأمنية وانتشار قواته على الأرض، على نحو أجبره، بعد اقترافه جريمة جنين، على نشر منظومة القبة الحديدية عند تخوم قطاع غزة، ودفع كتيبتين إضافيتين إلى الضفة الغربية، وعزّز وجوده في القدس والداخل الفلسطيني المحتلين.
أطلقت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عدداً من الصواريخ في اتجاه عسقلان المحتلة والمستوطنات المحاذية للقطاع، وانتشرت مجموعات فلسطينية عند طول السلك العازل شرقي قطاع غزة، وأشعلت الإطارات، في رسالة إلى احتمال العودة إلى الفعاليات الشعبية. كما شهدت مواقع متعددة في الضفة والقدس المحتلتين مواجهات مع حواجز الاحتلال، وأُطلقت نيران المقاومة على نقاط احتلالية أخرى، كما نُظِّمت وقفات تضامنية في مدن الداخل الفلسطيني المحتل، الأمر الذي يؤكد أن معادلة الربط بين الساحات لا تزال حاضرة بقوة في المشهد الفلسطيني، إلّا أن سيناريو اندلاع مواجهة عسكرية واسعة مستبعَد في هذه المرحلة.
تشير المواقف والارتدادات، التي أعقبت العدوان على جنين، إلى أنه، على الرغم من رغبة الأطراف الدولية في خفض التصعيد في المنطقة من أجل التفرغ للأزمة الدولية الناتجة من تداعيات الصراع في أوكرانيا، وسعي الوسطاء الإقليميين، ولا سيما مصر والأردن، لتهدئة الجبهة الفلسطينية خشية انعكاساتها على البيئة الداخلية الهشة، ولا سيما في الأردن، إلّا أن توجهات حكومة العدو وتناقضاتها الداخلية تُنذر بتأجيج الصراع، على نحو لن تنجح فيه جهود الأطراف الدولية والإقليمية في إخماد الحريق الذي بات ينتظر عُود ثقاب ستشعله حكومة نتنياهو الفاشية بعد أن ملأت رائحة الوقود كل الأرجاء.