"إعلان القدس" ما الجديد؟
وقّع الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس وزراء العدو الإسرائيلي، يائير لابيد، وثيقة أطلق عليها "إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، في 14 تموز/يوليو 2022، فهل حمل الإعلان مواقف جديدة من الولايات المتحدة تجاه حليفها الاستراتيجي "إسرائيل"؟، وهل هناك تحوّل في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية عكسه الإعلان؟، وهل عبّر الإعلان عن تغيّر في رؤية الرئيس بايدن تجاه الشرق الأوسط وتجاه إيران والاتفاق النووي معها؟
يحرص الرؤساء الأميركيون من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على زيارة فلسطين المحتلة، وعقد لقاءات مع قادة العدو، يتخللها إطلاق تصريحات وإصدار بيانات وتوقيع وثائق "استراتيجية" كلها تؤكد على مضامين متشابهة، وغالباً مكررة.
تعيد أبرز تلك المواقف التشديد على العلاقة الفريدة والاستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة بالعدو، والعلاقة غير القابلة للكسر بينهما، والالتزام الدائم بأمن العدو، والحفاظ على تفوقه العسكري النوعي، وتعزيز قدراته على ردع "أعدائه"، والتأكيد على العلاقة القائمة على القيم والمصالح والروابط المشتركة.
الأمر الذي يبيّن أن ما يسمى بـ " إعلان القدس" الذي تضمن تلك العبارات لم يأت بجديد على صعيد التعهدات الأميركية "التقليدية" تجاه العدو، ما دامت لا تتعارض مع المصلحة الأميركية، فعلى الرغم من العلاقة الفريدة التي تربطهما، أكد العديد من المنعطفات التاريخية، أن ما يحرك السياسة الخارجية الأميركية، هو مصالحها، وليس أي شيء آخر.
تعكس زيادة "جرعة" التأكيد على طبيعة العلاقة الاستراتيجية في "إعلان القدس"، زيادة القلق الإسرائيلي من التهديدات الخارجية، وحقيقة الدعم الأميركي المطلق للعدو، وانعدام اليقين تجاه مستقبل الهيمنة الأميركية على المنطقة، وصعود فاعلين دوليين وإقليميين على المسرح العالمي والشرق أوسطي، وبالأخصّ الفاعلين المناوئين للولايات المتحدة، روسيا والصين وإيران وحلفاءهم.
وفي الوقت الذي تراجع ملف الشرق الأوسط على الأجندة الأميركية، وتراجعت معه الثقة بعمق العلاقة الأميركية مع حلفائها في المنطقة، لا سيما العلاقة مع "إسرائيل" ودول الخليج، وهو الشك الذي تضاعف بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وتمسك إدارة بايدن بالعودة إلى عقد اتفاق نووي مع إيران، لإصلاح ما سمّته الإدارة الأميركية الخطأ الذي ارتكبه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وذلك على الرغم من التعهدات التي وردت في وثيقة بايدن/لابيد، بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي.
وحتى لو أضيفت كلمة "للأبد"، فهي تشير إلى اعتزام الولايات المتحدة على توقيع الاتفاق النووي خلال حكم بايدن، ولا تشير إلى الخيار العسكري ضد البرنامج النووي الإيراني، إلى جانب تشجيع خطوات التطبيع بين العدو ودول الخليج، وزيادة أوجه التعاون العسكري والاستخباري، لمواجهة "التهديدات" الإيرانية، وتحقيق توازن ردع في المنطقة.
تخشى "إسرائيل" أنها في لحظة ما، ستواجه التهديدات الأمنية وحدها، وأن الولايات المتحدة لن تحارب بالنيابة عنها، وهي تدرك أن "إعلان القدس" لن يمنحها الأمن والاستقرار في المنطقة، فضلاً عن كونه لم يأت بجديد، وهي تدرك أن الرئيس جو بايدن يعاني من أزمات داخلية، بسبب غلاء الأسعار وأزمتي الوقود والطاقة، وتراجع شعبيته لدى الرأي العام الأميركي، ويخشى من هزيمة حزبه في الانتخابات النصفية الأميركية في تشرين الثاني /نوفمبر القادم.
أيضاً، يعاني بايدن من أزمات خارجية بسبب الحرب في أوكرانيا، وتداعياتها السياسية والاقتصادية، على الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والمنطقة، ويواجه تحديات عالمية تهدد النظام أحادي القطبية الأميركي، وسعي روسيا والصين ودول أخرى لإنشاء نظام متعدد الأقطاب، فبايدن لم يرد بهذا الإعلان إلا تحسين مكانته الداخلية، وكفّ "إسرائيل" عن مساعيها لعرقلة الاتفاق النووي مع إيران، والتماهي مع الرغبة الأميركية في خفض التصعيد في المنطقة.
وفي المقابل، تحصل "إسرائيل"، على مواقف أميركية متقاربة تجاه القضية الفلسطينية، انطلاقاً من استمرار سياسات الإدارات الأميركية السابقة بإدارة الصراع وليس حلّه، وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين العدو والسلطة الفلسطينية، ومواجهة حركات المقاومة في المنطقة، حماس، والجهاد، وحزب الله، وغيرها.
الأمر الذي يؤكد أن "إعلان القدس"، لم يشر إلى سياسات جديدة تجاه القضية الفلسطينية، بل إلى مزيد من التراجع في الشكل وليس المضمون، إذ لم يعبّر بايدن عن دعم مسار "سلام" ومفاوضات تفضي إلى "حل الدولتين"، كما عبّرت عنه إدارات ديمقراطية سابقة، بل تحدث الإعلان عن قناعة أن هذا المسار أصبح غير واقعي في المدى المنظور، وأن المسار البديل هو "تكامل إسرائيل" مع دول المنطقة، الأمر الذي يؤكد أن رهان السلطة الفلسطينية على إدارة بايدن كان رهاناً خاسراً..
لم يأت "إعلان القدس" بجديد، على صعيد علاقة الولايات المتحدة بالعدو، إلا أن الجديد هو تراجع "التطبيل" الإسرائيلي للإعلان، فالعدو يدرك أن الولايات المتحدة لم تعد كما كانت، وأن الرهان عليها ليس مطلقاً، وأن مكانة "إسرائيل" داخل الولايات المتحدة تراجعت، ولم تعد مسألة إجماع أميركي.
وتحدثت أوساط فكرية وازنة، عن الخشية من أن تتحوّل "إسرائيل" من ذخر استراتيجي إلى عبء على الولايات المتحدة ومصالحها، كما عبّرت أوساط أخرى عن اعتقادها بأن حصول إيران على القنبلة النووية يسهم في تعزيز الاستقرار، ومنع الحرب في منطقة الشرق الأوسط؛ كونه يحقق توازن الردع، كما لم يأت الإعلان بجديد على صعيد الموقف من الاتفاق النووي الإيراني، بل هو يوحي باقتراب الاتفاق حوله، وتهيئة أطراف المنطقة للتعايش معه.
القضية الفلسطينية كانت شبه غائبة، في الإعلان، إلا من عبارة أكدت المؤكد، بأن مسار التسوية على أساس "حل الدولتين" مسار مغلق، والمتاح فقط هو دعم اقتصادي للسلطة، وتعاون أمني في المنطقة ضد محور المقاومة، وتعزيز مسار التطبيع، وهو المسار الذي لا يحتاج إلى دعم أميركي، لأن أطرافه أكثر تحمساً له من "الراعي" الأميركي.
إن ما دفع بايدن إلى زيارة المنطقة ليس توقيع "إعلان القدس"، وإعلان دعمه المطلق لـ "إسرائيل"، ولا دعم مسار التطبيع، أو من أجل طمأنة حلفائه في دول الخليج، بل من أجل الحفاظ على المصالح الأميركية السياسية والاقتصادية، ولدواع حزبية داخلية.
الرئيس بايدن يسعى في زيارته العادية (ليس أكثر من عادية) إلى الحفاظ على رؤية إدارته تجاه الشرق الأوسط، من خلال العمل على خفض التصعيد والتوتر، وتهيئة الأطراف لتوقيع اتفاق نووي مع إيران، وتأكيد هيمنة الولايات المتحدة العالمية، وتحذير الأطراف من تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، وتعزيز حظوظ الحزب الديمقراطي في انتخابات تشرين الثاني / نوفمبر القادم، وما دون ذلك فهو ما هو قائم بالفعل، عداء لقوى المقاومة، تهميش للقضية الفلسطينية، تأييد لمسار التطبيع، دعم لـ "إسرائيل" ما دامت تحافظ على المصالح الأميركية...
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.