اعتقال أبطال"نفق الحرية" لا يحجب سقوط "قلعة جلبوع"
تحدَّثت مطوَّلاً إلى عدد من الأسرى المحرَّرين في صفقة "وفاء الأحرار"، قبل نحو عشرة أعوام، من أجل التعقيب على نجاح ستة أسرى فلسطينيين في التحرّر من سجن جلبوع الإسرائيلي، الشديد التحصين.
الردّ الأوَّلي لمن مكث في السجن بضعَ سنين كان "جلبوع!! مش معقول!!".
سخّرت "إسرائيل" كل إمكاناتها المادية واللوجستية والتكنولوجية والبشرية في تحصين السِّجن الذي يضمّ أخطر المقاومين الفلسطينيين، وحظي السجن بمتابعة خاصة، أمنياً واستخبارياً، لأنّ عدداً من الأسرى حاول عدة مرات الهروبَ منه.
السجن "القلعة" ربما يختصر حكاية "إسرائيل". وسقوط منظومة تحصين السِّجن، عبر استخدام أبسط الأدوات البشرية، يُسقط معه الأوهام التي زرعتها "إسرائيل" منذ نشأتها في نفوس العرب والمسلمين وعقولهم.
بنت "إسرائيل" سلسلة من الأكاذيب والروايات عن قدراتها الأمنية والعسكرية والاستخبارية، بهدف الإيحاء بتفوُّقها النوعي، واستحالة هزيمتها من الجيوش العربية، حتى لو واجهتها مجتمعةً.
نجاح الأسرى في تجاوز كل القيود المفروضة على سجن جلبوع، يعكس أن الإرادة والتحدّي قادران على تجاوز عقبة التفوق المادي، وخصوصاً إذا انتُزعت منه الإرادة.
"إسرائيل" تتفوَّق عسكرياً، في المقدِّرات والإمكانات والتجهيزات والتحصينات، لكنّ حادثي "جلبوع" ومقتل الجندي القنّاص عَبْرَ فُتحة جدار فاصل عن قطاع غزة بمسدّس فلسطيني من مسافة صفر، إلى جانب ما أظهرته معركة "سيف القدس"، كشفت جوانب خلل ونقاط ضعف استراتيجية في مناعة "إسرائيل"، أفقدتها القدرة على تحقيق الردع، فضلاً عن إنجاز النصر.
من أبرز عوامل الضعف وأخطرها، والتي باتت تؤرّق قادة "إسرائيل" ولم تُخْفِها قياداتها، ولاسيما العسكرية، مثل رئيس الأركان أفيف كوخافي ووزير الأمن بيني غاننس، إلى جانب عشرات الكُتّاب والمفكّرين الصهاينة، فقدانُ ثقة الإسرائيليين بالجيش والمنظومتين الإسرائيليّتين، الأمنية والعسكرية. وكان توجيه النَّقد والتشكيك إلى "الجيش"، يُعْتَبر من التابوهات في "إسرائيل". فعلى الرغم من أن كلّ المؤسسات والشخصيات داخل "إسرائيل"، في جميع المستويات السياسية وغيرها، تتعرّض للنقد وحتى للتشهير، فإن انتقاد "الجيش" كان محرَّماً وشاذّاً، بينما كشف حادث "جلبوع" وقتلُ الجندي القناص، اهتزازاً غير مسبوق في الثقة بالجيش، وبالمستويين العسكري والأمني عموماً.
أصبح المجتمع الإسرائيلي غير متقبِّل للتضحية بجنوده في أيّ مواجهة يخوضها. والنَّقد اللاذع والموجَّه إلى قادة "جيش" العدو، لا يعكس الشكّ في قدراتهم، بل يعكس عدم قابلية الجبهة الداخلية لتحمُّل الخسائر، حتى لو كانت محدودة؛ بمعنى أنهم يريدون مواجهة عدوانية مع صفر خسائر!!
من أبرز التهديدات التي تواجه العدو، ضعفُ الرغبة والدافعية القتاليتين لدى جنود جيشه. وهناك تراجعٌ ملحوظ في الالتحاق بالكتائب القتالية للجيش، يقابله اعتماد أكبر على العامل التكنولوجي. وهو، على الرغم من أهميته، لا يعوّض الحاجة إلى العامل البشري على الأرض.
تمكّن الأسرى الستة من الهروب من سجن جلبوع، المزوَّد بكاميرات مراقبة ومجسّات دقيقة وإشارات تكنولوجية عالية الدقة، أثبتت أنها لا تعوِّض وجود حراسة متيقظة، لديها الإرادة والدافعية من أجل القيام بدورها.
العدو اعترف بضَعف جهوزية القوات البرية، ومحدودية الالتحاق بكتائبها وتشكيلاتها العسكرية المتعدِّدة، الأمر الذي انعكس على حجم التأهيل والتدريب للقوات. وشهدت معركة "العصف المأكول" عام 2014 في غزة، وحرب تموز/يوليو 2006 في جنوبي لبنان، إخفاقاً واضحاً للقوات البرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
المستويان الإسرائيليان، السياسي والعسكري، يدركان أن القوة الجوية والقدرات التكنولوجية والاستخبارية لا يمكن أن تحسم المعارك، وهما يخشيان اللحظة التي ستُضطَرّ فيها "إسرائيل" إلى اختبار القوات البرية.
ومن عوامل الضَّعف ما أظهرته كل المواجهات العسكرية مع العدو، في مستوياتها المتعدِّدة، والتي كشفت ضَعفَ المناعة الذاتية للعدو، وهشاشةَ جبهته الداخلية.
في المقابل، أثبتت المقاومة تمتُّعها بإرادة صُلبة، واجهت من خلالها أصعب التحديات، وأفشلت معها وَهْمَ "الجيش الذي لا يُقْهَر".
منذ معركة "سيف القدس"، مروراً بقتل الجندي الصهيوني القنّاص شرقيّ قطاع غزة، وصولاً إلى هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع، يمر الاحتلال الإسرائيلي في أسوأ حالاته، وتجلّت فيها إرادة قتالية عالية للمقاتل الفلسطيني في مقابل ضَعفها لدى جندي الاحتلال الإسرائيلي، وحاضنةٌ شعبية متماسكة والتفافٌ وطني كبير حول المقاومة، واستعدادٌ عالٍ للتضحية والفداء، في مقابل اهتزاز ثقة الإسرائيليين بجيشهم، وضَعفِ جبهتهم الداخلية، وعدم تقبُّلهم الخسائر. ويُثبت هذا الأمر أن الإرادة التي أسقطت الوهم الأصغر، "قلعة جلبوع"، قادرةٌ على إسقاط الوهم الأكبر، "قلعة إسرائيل".
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.