الموقف "الإسرائيلي" قبيل استئناف مباحثات فيينا
برزت في الأسابيع الأخيرة أحاديث عن رزمة واسعة من المشاريع والتسهيلات للسكان في غزة، من قبل "دولة" الاحتلال؛ فمن الواضح أن "إسرائيل" تقود خطة إقليمية ودولية واسعة النطاق لتحييد جبهة غزة عن المواجهة مع الاحتلال،
من خلال إفقاد المقاومة في غزة القدرة على اتخاذ قرار المواجهة ضد "إسرائيل"، نتاج تعقيدات الحسابات الاقتصادية والاجتماعية لدى الحاضنة الشعبية داخل غزة، والتي تنتظر الخلاص من أزماتها الحياتية والاقتصادية، عن طريق المشاريع المنوي بناؤها في غزة، وبالتالي سيزداد الضغط الجماهيري على المقاومة في اتجاه عدم ممارسة أي فعل مقاوم ضد الاحتلال من ساحة غزة، كما تخطط "إسرائيل"، خاصة مع تعالي أصوات الإعلام الموجّه ذي الأجندات المشبوهة، الذي بات إحدى ركائز الاستراتيجية الصهيونية في محاربة المقاومة كفكرة وكممارسة، من خلال إيهام الناس بأن المقاومة عبارة عن خراب وجوع وتدمير، لكن يبقى التساؤل الرئيس، ما الذي دفع "إسرائيل" التي تحاصر غزة منذ 15 عاماً إلى أن تلجأ إلى التسهيلات الاقتصادية من أجل تحييد غزة؟ وما مصلحتها من وراء ذلك؟
تتناغم خطة تحييد غزة من خلال الاقتصاد مع المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية الكبرى، فـ"إسرائيل" ستكون مرتاحة جداً إذا نجحت في تحييد أو على الأقل تبريد جبهة غزة، من خلال التسهيلات الاقتصادية، لعدة أسباب، أهمها:
أولاً، تأتي تلك المشاريع في سياق مشروع الأمن مقابل الاقتصاد، الذي يطرحه وزير خارجيتها "يائير لابيد"، والذي بات محل اتفاق لدى الحكومة الإسرائيلية، للتعامل مع القضية الفلسطينية؛ فاقتناعات الإسرائيليين، حكومة ومستوطنين، هي استحالة قبولهم بإقامة دولة فلسطينية، وبالتالي لا يمكن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، ولكن من الممكن العمل على خفض الصراع معهم.
فعلى مسار فكّ الحصار عن غزة، تلك المشاريع المطروحة، رغم أنها تخفف من معاناة سكان غزة اقتصادياً، لكنها لا تمنح غزة أي استقلالية اقتصادية بمعزل عن السيطرة والقرار الإسرائيليّين.
أما على مسار التسوية مع السلطة، فستبقى السلطة تنتظر سراب التسوية، في الوقت التي باتت فيه النظرة الصهيونية إليها أنها عبارة عن وكيل أمني لها من خلال ما يسمّى التنسيق الأمني، وبالتالي تلك المشاريع لا تحمل في طيّاتها أي تنازلات إسرائيلية سياسية استراتيجية تجاه القضية الفلسطينية، بل تحييد غزة عن الصراع، كما يهدف الإسرائيلي، بما يساعده على الاستمرار في مخططاته الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية والقدس، من دون أن يتكرر سيناريو معركة سيف القدس التي عزّزت الرابط ما بين غزة والقدس.
ثانياً، رغم أن تلك المقاربة الاقتصادية الإسرائيلية تجاه غزة تعتبر اعترافاً من "الجيش" الإسرائيلي بأنه فشل في تحقيق الهدوء من خلال قوته العسكرية على مدار أربع حروب، وما بينها من معارك، فإن تلك المشاريع ذات الصبغة الاقتصادية ستعمل على زيادة قوة الردع الإسرائيلية، التي تراجعت تجاه غزة والمقاومة، حيث يكفي إقفال معبر بيت حانون ومنع دخول العمال إلى الداخل المحتل عام 48، أو تعطيل المشاريع التنموية المنشأة لمصلحة غزة، لترميم قوة الردع الإسرائيلية، من دون الحاجة إلى استخدام السلاح والقوة العسكرية، وهذا ما طرحه وزير المواصلات "يسرائيل كاتس" وعضو الكابينت الإسرائيلي بعد حرب 2014، ووافقت عليه المؤسسة العسكرية، وعارضه كل من "بنيامين نتنياهو" رئيس الوزراء آنذاك، وجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، وبالتالي تسعى "إسرائيل" من خلال مشروع الأمن مقابل الاقتصاد إلى توفير الهدوء الأمني المجاني على جبهة غزة، بعد أن فشلت بالقوة العسكرية.
ثالثاً، نجاح خطة الأمن مقابل الاقتصاد سيمنع أي خلافات من الممكن أن تحدث ما بين "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية في ما يتعلق برؤيتهما حيال التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث تلك الخطة ستوفر للأميركي الهدوء والاستقرار في الملف الفلسطيني، من دون الاضطرار إلى الدخول في إشكاليات مع الحكومة الإسرائيلية في مواضيع لها علاقة بوقف الاستيطان أو حتى العودة إلى مفاوضات التسوية أو حتى المخاوف من انعكاسات أزمات غزة الإنسانية على استقرار الإقليم، ومن الجهة الأخرى تنفذ الخطة بغطاء عربي إقليمي، الأمر الذي يُجبر المتخاصمين من العرب على إيجاد قواسم مشتركة، وبالتالي إعادة جديدة لترتيب الأدوار في المنطقة بحسب الرؤية الأميركية. لكن يبقى الأهم أن الهدوء على الساحة الفلسطينية يفتح الطريق أمام زيادة وتيرة التطبيع الإسرائيلي العربي، وتحويل اتفاقات "أبراهام" إلى تحالفات عسكرية مع "إسرائيل" يخدم الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، كما حدث مع المغرب مؤخراً، بشكل رسمي وعلني.
رابعاً، تحييد جبهة غزة، الثقل المركزي للمقاومة الفلسطينية، من الصراع، يمنح الإسرائيلي التفرغ للجبهة الإيرانية، التي تعتبر، بحسب تصنيفات التقديرات الأمنية الإسرائيلية، الأخطر حالياً، على ضوء الحديث عن تسارع مشروعها النووي، وفي ظل اقتناع الولايات المتحدة الأميركية بأن خيار الحرب غير مُجدٍ في مواجهة المشروع النووي الإيراني، وبالتالي "إسرائيل" بحاجة إلى تركيز كامل قوتها، ومقدراتها العسكرية والأمنية والسياسية، للاستعداد لضربة عسكرية للمنشآت الإيرانية النووية، رغم أن الهدف الحقيقي من تلك الاستعدادات هو وضع الخيار العسكري على طاولة الخيارات الأميركية في التعامل مع الملف النووي الإيراني، في حال فشلت مفاوضات فيينا.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.