الكلّ على أبواب دمشق.. لماذا ؟
استنفر الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان كلّ إمكانياته المباشرة وغير المباشرة لتحقيق المصالحة العاجلة مع كل من مصر والسعودية والإمارات، قبل أن تصالح بدورها دمشق، التي يبدو أنها عادت من جديد قفلاً ومفتاحاً لمجمل معادلات المنطقة.
ومع استمرار المساومات الحساسة بين طهران وواشنطن للاتفاق على ما تبقّى من نقاط الخلاف المرتبطة بالاتفاق النووي، يسعى كل طرف لتحقيق المزيد من المكاسب على صعيد الحسابات الثنائية والإقليمية. يفسر ذلك مساعي واشنطن لإقناع الرياض وأبو ظبي بضرورة المصالحة مع إيران، التي تتصرف من موقع القوة، سواء في سوريا والعراق ولبنان أو في اليمن. ويعرف الجميع في المنطقة وعواصم الغرب والشرق أهمية هذه الدول، بسبب موقعها الجغرافي الذي يجعلها ساحة لصراعات إقليمية ودولية.
دفع ذلك أنقرة إلى مراقبة كل التفاصيل الدقيقة في الحوار الإيراني – الأميركي/الغربي وانعكاساته المحتملة على حساباتها في المنطقة، نظراً إلى ما تتميز به إيران من تواجد وتأثير إقليمي يزعجها أو يقلقها، وخصوصاً في الجارتين سوريا والعراق. وتتخوّف أنقرة أن يزداد هذا التواجد والتأثير بعد المصالحة المصرية - السعودية - الإماراتية مع دمشق، ليكون على حساب المصالح التركية في المنطقة.
قد يكون هذا التخوّف هو السبب الرئيسي الذي دفع إردوغان إلى الاستعجال في مساعي المصالحة مع كل الدول التي كانت في جبهة واحدة مع أنقرة في حربها على الأسد خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2015، على الرغم من فترة الانقطاع القصيرة، بسبب انقلاب السّيسي على الإخواني محمد مرسي؛ حليف إردوغان الاستراتيجي في مجمل حساباته العقائدية والاستراتيجيّة.
لقد تبنى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو منذ بداية الأزمة في سوريا كل المشاريع والمخططات والتحركات التي استهدفت سوريا، وكان إلى جانبه دائماً وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم، والسعودي سعود الفيصل، والإماراتي عبد الله بن زايد، والمصري نبيل العربي، ومحمد كامل عمرو، ونبيل فهمي. وقد عملوا جميعاً، ومعهم وزراء خارجية دول عربية أخرى، مثل الأردن والمغرب والبحرين والكويت، من أجل تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ليكون ذلك بداية التآمر الإقليمي والدولي عليها.
وكان داوود أوغلو وحمد بن جاسم وسعود الفيصل اللاعبين الأساسيين في هذا التآمر، ومعهم وزراء خارجية أميركا جون كيري وهيلاري كلينتون، وفرنسا آلان جوبيه ولوران فابيوس، وبريطانيا وليام هيغ وفيليب هاموند، وألمانيا غيدو فاستر فيله وفرانك شتاينماير. وقد أصبح الأخير في ما بعد رئيساً لألمانيا، كما أصبح داوود أوغلو رئيساً للوزراء، مكافأة له على دوره في ما يسمى بـ"الربيع العربي"، تحت شعارات قومية ودينية عثمانية تاريخية.
أدى هؤلاء معاً دوراً أساسياً في مجمل المشاريع التي استهدفت الرئيس الأسد، عبر ما يُسمى "مجموعة أصدقاء سوريا" التي دعمت الفصائل المسلحة، بما فيها "داعش" و"النصرة"، بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك بعد اجتماع إسطنبول في نيسان/أبريل 2012، الذي سبقه اللقاء الأول في تونس في 12 كانون الثاني/يناير.
الآن اعترف الجميع بانتصار الدولة السورية، والأهم الشعب السوري، الذي تحمَّل ما لم يتحمّله أي شعب عبر التاريخ الحديث.
وكان هذا الصّمود، وقبله الإطاحة بالإخواني محمد مرسي، وما نتج منه من توازنات جديدة في المنطقة، قد أسقط مشروع إردوغان العقائدي الذي كان السبب الأهم في مجمل التطورات الأخيرة إقليميا ودولياً. وإلا، لما استعجل أعداء الأمس ليقرعوا أبواب دمشق التي دخل منها إردوغان المنطقة العربية بعد استلام حزبه السلطة في تركيا في نهاية العام 2002.
ولولا هذا الصمود أيضاً، لما فكّر إردوغان في مصالحة الرئيس السيسي وحكام السعودية والإمارات، وهو الذي أرسل جيشه إلى قطر (تضم أكبر قاعدتين أميركيتين) لحماية أميرها من عدوان هاتين الدولتين، ومعها مصر، التي أعلنت وإياها الإخوان تنظيماً إرهابياً، ما أحرج إردوغان في مجمل تحركاته الإقليمية والدولية.
وفي جميع الحالات، وأياً كانت حسابات واشنطن من مجمل التطورات، المكشوفة منها والسرية، بما في ذلك تحقيق المصالحة العربية - الإسرائيلية، ومن قبلها المصالحة العربية - الفارسية، بات واضحاً أنَّ الخاسر الأكبر سيكون الرئيس إردوغان، الذي خرج بخفي حنين من كلّ الساحات التي دخلها بعد العام 2011، وفي مقدمتها سوريا وليبيا، ونسبياً العراق، نظراً إلى سوابق التواجد العسكري التركي فيه، بسبب الحرب على العمال الكردستاني.
وستضع المصالحة العربية مع دمشق، ما لم تكن خدعة جديدة عودنا عليها بعض الحكام العرب، كما كان الأمر قبل 2011، الرئيس إردوغان أمام تحديات صعبة ومعقدة وخطيرة، قد تدفعه إلى اتخاذ العديد من التدابير الاستباقية لمواجهة هذا التحرك العربي، وقبله أو بعده تفوّق المنافس الإيراني التقليدي.
وتتوقع بعض الأوساط للقاء إردوغان مع الرئيس جو بايدن على هامش القمة الأطلسية في بروكسل في 14 حزيران/يونيو القادم، أن يشهد مساومات ساخنة وحاسمة ستقرر مصير مجمل حسابات إردوغان في المنطقة، وخصوصاً أن الجميع يعرفون "مشاعر بايدن السلبية تجاهه".
وقد يجبر مثل هذا الشعور الرئيس إردوغان على القبول بمجمل شروط الرئيس بايدن ومطالبه، وأهمها الابتعاد عن روسيا والتخلّي عن تهديداته لكرد سوريا، فالمعلومات تتحدّث عن مساعيه للمصالحة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الموجود في السجن منذ 22 عاماً، في محاولة جديدة منه للمساومة بالورقة الكردية سورياً، لعرقلة الحل النهائي فيها عبر وحدات حماية الشعب الكردية، وتركياً لمنع أحزاب المعارضة من تشكيل تحالف قوي ضده.
وقد سعى بعد العام 2011 لإقناع كرد سوريا بضرورة التمرد على الرئيس الأسد، مقابل وعود بمنحهم كامل حقوقهم في سوريا الجديدة، إلا أنه فشل في ذلك، فشنّ الحرب عليهم مع بداية العام 2016. كان ذلك نهاية حساباته، وربما أحلامه، وهو الذي كان يتحدث عن حقوق تركيا التاريخية في الشمال السوري، كما تحدث الرئيس الراحل تورغوت أوزال عن حقوق مماثلة لتركيا في الشمال العراقي بعد هزيمة صدام حسين في حرب الكويت.
وإذا كانت كل التوقعات المرتبطة بالمصالحة العربية مع دمشق وانعكاساتها سلباً على حسابات إردوغان صحيحة، يبقى الرهان في نهاية المطاف على سرعة الرئيس الأسد في التعامل مع كل المعطيات الجديدة من دون أيّ أخطاء قد تستغلّها الأطراف التي لا تريد لسوريا أن تخرج من دواماتها المختلفة، وهي كثيرة في الخارج، وبعضها في الداخل، وهي التي ارتكبت، وما تزال، الكثير من الأخطاء، وأوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، أولاً لجهلها، وثانياً لحساباتها ومصالحها الضيقة التي كلّفت سوريا وشعبها الكثير من الآلام التي تحتاج إلى مئات الأفلام الهوليوودية والمسلسلات الرمضانية العربية لكشف خفاياها للجميع.
الأسد الذي يستعدّ لانتخابات الرئاسة بعد 3 أسابيع، عليه أن يثبت لشعبه أنه سيساعده للخروج من أزماته الحالية بأقرب فرصة، وإلا لن تعني الانتخابات أي شيء، ما دام الشعب ما زال يعيش معاناة، وسيبقى، والجميع يعرف السبب، فالانفتاح العربي على دمشق وما سيسبقه أو يلحق به من انفتاحات أخرى أميركية وأوروبية، قد تكون فرصة الرئيس الأسد الأخيرة لتحقيق انتصاره الأكبر، ليس بالبقاء في السلطة، بل بإقناع شعبه بأنه على وشك أن يقطف ثمار صبره.
وسيكون هذا الانتصار حينها فرصة الأسد التاريخية ليعود بسوريا إلى ما قبل العام 2011، عندما كانت شعبيته عالية جداً، حتى باعتراف الأعداء. ولم ينجح الأسد في استغلال هذا التأييد، وخصوصاً بعد أحداث تونس، التي لو أجرى بعدها انتخابات ديمقراطية، وبإشراف دولي، لما استطاع أحد أن يقول أي شيء عن "نظامه"، مهما كان حجم التآمر اللاحق.
وفي جميع الحالات، ستحسم الأيام والأسابيع القليلة مسار الملف السوري برمته. ولأن كل ما نراه الآن من تحركات تركية وإيرانية وعربية، ومن خلفها التحركات الروسية والأميركية والصينية والأوروبية، لن تأتي بأي نتيجة نهائية، سلباً كان أم إيجاباً، إلا عبر البوابة الدمشقية، فمن يستعجل في دخولها آمناً، سيبقى فيها سالماً برضا شعبها الذي غدر به الإخوة والأشقاء والأصدقاء، وآن الأوان للجميع ليعتذروا منه. وعلى الرئيس الأسد أن يفعل كل شيء من أجل هذا الشعب الذي ضحّى بكلّ غالٍ ونفيس من أجله ومن أجل الوطن.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً