لماذا سارع الأميركيون والأوروبيون إلى إيجاد مخرج لإلغاء العقوبات على إيران؟
ما حدث مؤخراً من تسارع في إجراءات عودة الأميركيين إلى الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات على إيران كان منتظراً، نظراً إلى أنه كان الحل الوحيد لخروج واشنطن من المأزق الترامبي، ولكن ما كان مفاجئاً هو سرعة التصرف الأوروبي والتجاوب الأميركي، والذي تم فيه تجاوز أكثر من تصريح سابق لمسؤولين أميركيين. وقد تعارض هذا التوجه بشكل شبه كامل مع تلك التصريحات... فما الأسباب؟
في الظاهر، يبدو لأغلبية المتابعين أن الاتفاقية الاستراتيجية بين إيران والصين هي السبب الرئيس لهذا التجاوب الأميركي. طبعاً، تحمل هذه الاتفاقية الكثير من النقاط التي تدفع الأميركيين إلى أخذ الحيطة والخشية من مفاعيلها المرتقبة.
يمكن تلخيص هذه النقاط على الشكل الآتي:
اقتناع الأميركيين بأنهم بعد هذا الاتفاقية، وخصوصاً في النقاط المتعلقة بتثبيت سوق دائم لكل ما تستخرجه إيران من نفط وغاز سائل لمدة 25 عاماً على الأقل، وبالأسعار المعتمدة من قبل المنظمات الدولية لتجارة الطاقة وتحديد أسعارها (أوبك وغيرها)، لن يستطيعوا ممارسة الضغوط التقليدية على إيران (عبر منعها من تصدير نفطها)، والتي دأبوا على ممارستها منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أيضاً، اقتناع الأميركيين باستحالة فرض حصار مباشر على إيران بعد الآن، بحراً أو براً. وبعد أن كان هذا الأمر يحمل أساساً قبل الاتفاق مع الصين الكثير من الصعوبة والأخطار، نظراً إلى ما أثبتته إيران وفرضته من قدرات في الردع وتوازن القوة، كيف سيكون حاله اليوم، بعد اتفاق استراتيجي أشبه بتحالف عسكري أو بمعاهدة دفاع مشترك، إذ أصبح أي استهداف للمصالح الإيرانية من قبل الأميركيين، عبر استهداف حدود أو مرافئ أو مرافق إيرانية اقتصادية، يُعتبر استهدافاً - ولو غير مباشر - للمصالح الصينية، إثر تشابك الأخيرة مع مثيلتها الإيرانية وارتباطها بها، بعد أن جعل هذا الاتفاق من إيران قاعدة أساسية متقدمة لطريق الحرير الصيني أو لمشروع "الحزام والطريق"؟
إذاً، كثيرة هي الأسباب التي تدفع أغلبية المتابعين إلى الاعتقاد بأن الاتفاق الاستراتيجي بين إيران والصين، وما يمكن أن يحمله من تحصين لقوة إيران ومقدراتها، هو الذي دفع الأميركيين للمسارعة إلى تخطي ما كان يعتبر بالنسبة إليهم خطوطاً حمراء، أي: وجوب تراجع إيران الفوري عن تجاوز التزاماتها ببنود الاتفاق قبل إلغاء العقوبات، وربط أي إلغاء للعقوبات عنها بتفاوض أوسع يشمل الصواريخ والنفوذ. هذا الاتفاق أيضاً، في نظر هؤلاء المتابعين، هو الذي دفع الأوروبيين إلى خلق فرص التواصل والتفاوض والبحث الجدي عن مفاتيح إلغاء العقوبات عن إيران، ولكن في الواقع، فات هؤلاء المتابعين أكثر من نقطة أساسية لا بد من الإشارة إليها، وهي:
أولاً: جاء الاتفاق بين إيران والصين ليكون مخرجاً مناسباً للأميركيين، فسارعوا إلى التلطي وراءه لتأمين مخرج العودة، على أساس أنه شكل تغييراً استراتيجياً في العلاقات الدولية - الاقتصادية والسياسية - يستوجب عليهم البحث عن مناورة معينة، بهدف مواجهته أو التحايل والتذاكي لإفراغه من مضمونه أو على الأقل تخفيف تداعياته ونتائجه السلبية عليهم، فكان قرارهم بتسهيل عودتهم إلى الاتفاق وتسريعه، وهو ما لا تعني عملياً، بالنسبة إلى إيران، أكثر من إلغاء العقوبات عنها، لتعود، كما وعدت وصرحت دائماً، إلى إلغاء خفض التزاماتها ببنود الاتفاق لناحية التخصيب مباشرة بعد إلغاء جميع العقوبات عنها.
ثانياً: لقد فات أيضاً أغلب المتابعين أن موقف إيران وموقعها، والذي فرض على الأميركيين التنازل (لم يكتمل عملياً حتى الآن، ولكنه على الطريق)، هو الذي قاد الصين، وعن قناعة ومصلحة قومية استراتيجية، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، إلى السير في هذه الاتفاقية التاريخية معها، على الرغم من أنها تقيّدها في زمان غير بسيط، وفي إجراءات والتزامات مكلفة وغير بسيطة، وهي الدولة الكبرى صاحبة الإمكانيات الضخمة، والتي تقارع اليوم الغرب وتنافسه وتتحدى دوله الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، في مواجهة اقتصادية واستراتيجية متكافئة.
ثالثاً: وهي النقطة الأهم، يبدو أن الأميركيين والأوروبيين أحسنوا التقاط الفرصة الأخيرة قبل خسارتها، إذ أظهرت إيران، ومن خلال أكثر من إشارة واضحة وحاسمة، أن هذه هي الفرصة الأخيرة للولايات المتحدة الأميركة وحلفائها الغربيين لبقائها في الاتفاق النووي، وأنها شارفت على النهاية، وأفهمت الجميع، بصراحتها المعهودة، أنها، بعد انتهاء هذه الفرصة الأخيرة، وبعد أن جرّبت واشنطن ومن معها كل ما يمكن تجربته لإخضاعها وفشلوا في ذلك، لن تعود معنية بالاتفاق، لا من قريب ولا من بعيد، ولو نفذت لاحقاً واشنطن كل ما تطلبه طهران اليوم.
إذاً، هناك أسباب فعلية دفعت الصينيين أولاً إلى الاتفاق مع إيران، ودفعت الأميركيين ثانياً إلى الاستسلام أمام الثبات والعناد الإيراني. يمكن تحديد هذه الأسباب على الشكل الآتي:
أولاً: موقع إيران الجغرافي يؤدي دوراً محورياً في أي اشتباك استراتيجي أو أي تنافس على النفوذ أو السيطرة بين الدول الكبرى، إذ إنها تشكل بموقعها على الخليج وعلى مداخل خليج عمان وبحر العرب نقطة الربط الأكثر تأثيراً بين البحر المتوسط والبحر الأحمر وباب المندب من جهة، وبين شمال المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي من جهة أخرى. وفي حين تشكل هذه المساحات البحرية حالياً بقعة الاشتباك الأكثر حماوة في العالم، والتي تتسابق أغلب الدول القادرة على الإمساك بها أو على امتلاك أكثر من نقطة ارتكاز بحرية فيها، تقدم إيران عبر ذلك الموقع، وكشريك أساسي، نقطة القوة الأكثر تأثيراً في تدعيم موقف الصين وموقعها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية.
أيضاً، لا تقتصر أهمية موقع إيران الجغرافي على تدعيم عناصر التحالف مع الصين، بل تقدم الجمهورية الإسلامية عبر هذه الجغرافيا المتميزة أكثر من نقطة ارتكاز مناسبة لأي تحالف مشابه مع روسيا، إذ تحتاج الأخيرة إلى سند أساسي يدعمها في حديقتها الخلفية جنوباً باتجاه آسيا الوسطى أو باتجاه جنوب القوقاز، ويعد موقع إيران كشريك أو حليف لموسكو قادراً على أداء دور فاصل ومؤثر في أي مواجهة تُفرض على روسيا انطلاقاً من الجنوب.
ثانياً: مناورة إيران الذكية والجادة في خفض التزاماتها ببعض بنود الاتفاق النووي، وخصوصاً في ما خص رفع نسبة تخصيب اليورانيوم، ما آثار خشية أغلب الدول المتخاصمة معها، وفي مقدمتها "إسرائيل"، التي رأت في ذلك ضربة قاضية لها، بعد أن وجدت في رفع التخصيب والوصول إلى مستوى تستطيع فيه إيران متى أرادت أن تصنع قنبلة نووية، خطراً وجودياً جدياً وغير قابل للنقاش أو المساومة أو التساهل، وفي الوقت نفسه تأكد جميع خصومها أن مهاجمتها واستهداف منشآتها النووية، دونه الكثير من المخاطر والتداعيات التي لن يستطيع أحد تحملها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً