التّنقيب على تخوم الانفجار.. لماذا تقترب "إسرائيل" من "بلوك 9" اللبناني؟
يمكن تحديد ثلاثة احتمالات لخلفية التحركات الإسرائيلية، أولها أنها تحاول استغلال ظروف لبنان وفرض التّنقيب كأمر واقع، أو تمهيد الطريق لمواجهة عسكرية، أو الوصول إلى ربط نزاع مع لبنان ومع غيره بالاشتراك مع واشنطن.
صادقت حكومة العدوّ الإسرائيليّ مؤخراً على انطلاق عملية منح تراخيص للبحث عن الغاز الطبيعيّ والنفط في البلوك الذي تصنّفه 72 (ألون دي سابقاً)، والّذي يقع في المياه الإقليمية الشمالية لفلسطين المحتلة، بمحاذاة "البلوك 9" اللبناني، بعد أن كانت قد امتنعت عن ذلك لسنوات، بسبب الخشية من تفاقم النزاع مع لبنان.
ماذا تغيَّر اليوم في الظروف والمعطيات التي كانت تملي عليها سابقاً الابتعاد عن القيام بما يفتح المجال واسعاً لاشتباك غير مدروس مع لبنان والمقاومة، وخصوصاً أن الوساطة الأميركية حول ترسيم الحدود البحرية لم تحسم بعد، وما زالت معلّقة بعد العرض الأميركيّ- الإسرائيليّ الأخير (مبادرة هوف) بحصول لبنان على ما نسبته 65% من المنطقة المتنازع عليها؟
بالنظر إلى ظروف هذا القرار، يمكن تحديد ذلك بثلاثة احتمالات رئيسية، أولها أنها تحاول القيام باستغلال ظروف لبنان غير المتوازنة الحالية وفرض التّنقيب كأمر واقع، أو أنها تطرح إشكالية معقّدة تعلم أنها ستؤدي إلى مواجهة تريدها حالياً، أو أنها تطرح إشكالية تريدها محصورة دبلوماسياً، بهدف ربط نزاع مع لبنان ومع غيره، بالاشتراك مع واشنطن.
الاحتمال الأول: استغلال الظروف لفرض أمر واقع
حول هذا الاحتمال، ترى "إسرائيل" اليوم أنَّ لبنان يعاني ما يعانيه من أوضاع اقتصاديَّة وماليَّة ونقديَّة ضاغطة، هي (إسرائيل) أساساً غير بعيدة عن التسبّب بها، وتشترك مع واشنطن في المساهمة بها، بهدف خلق توتر وغليان شعبي، لتوجيه الرأي العام اللبناني نحو التصويب على حزب الله وسلاحه، واعتباره سبباً رئيسياً في العقوبات الأميركية التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه.
أيضاً، ترى "إسرائيل" - وهذا صحيح - أنَّ الدّولة اللبنانيّة اليوم تعاني من لاتوازن سياسي، يقوم على معارضة شرسة للحكومة ولرئيس الجمهورية، وعلى خلفية ما تعتبره هذه المعارضة الموجهة أميركياً وإسرائيلياً، نفوذاً قوياً لحزب الله داخل السلطة اللبنانية، الأمر الّذي يشتت (بحسب رؤية "إسرائيل") القرار السياسي اللبناني الجامع الذي تحتاجه أي مواجهة ضد الاعتداء على الحقوق البحرية اللبنانية، فتضيع مركزية القرار وصلابته، ويضعف لبنان كسلطة أمام الاعتداء البحري الإسرائيلي.
هذا الاحتمال كان يمكن أن يكون وارداً بقوة، لو كانت جبهة الدفاع اللبنانية، والمتمثلة بثلاثية أثبتت فعاليتها (جيش وشعب ومقاومة)، غير قادرة على الفصل بين الأوضاع الداخلية المعقدة في لبنان، السياسية أو الاقتصادية، وما هو مطلوب ومناسب لمواجهة "إسرائيل"، ولكن هذه المقاومة الثلاثية برهنت، وخلال جميع المواجهات والاعتداءات المعادية، أنها قادرة على الفصل التام وإبعاد أي تأثير لمشاكل الداخل عن واجب الدفاع والمواجهة ضد "إسرائيل".
الاحتمال الثاني: احتمال جر لبنان إلى حرب
هناك من يفكّر ويعتقد أنَّ "إسرائيل" بإحداثها هذه الإشكاليَّة تريد خلق ذريعة لتنفيذ اعتداء واسع على لبنان، وتريده الآن بقوة كفرصة لاستهداف قدرات حزب الله، إذ تنظر "إسرائيل" إلى هذه القدرات بأنها أصبحت غير محتملة، وهي مصيبة بذلك، ولذا باتت تستوجب من وجهة نظرها التخلّص منها فوراً.
ما يعزّز إمكانية أن تكون "إسرائيل" ساعية إلى الحرب اليوم، أنها ترى أيضاً في تشتت القرار السياسي اللبناني وتشرذمه فرصة لا تعوض لتنفيذ اعتداء واسع، سيكون لبنان ضعيفاً في مواجهته وهو في هذا الوضع الضعيف من الانهيار المالي والاقتصادي، ومن التفرقة والشرذمة والغليان السياسي، حيث ستكون كل هذه المعطيات السلبية من الداخل اللبناني سلاحاً آخر بيد "إسرائيل"، يضاف إلى أسلحتها المتطوّرة الكاسحة، لتحقيق الفوز بما تريده من تدمير لقدرات حزب الله، من دون إمكانية وجود جبهة وطنية متماسكة لمواجهتها.
كان يمكن لهذا الاحتمال أن يصحّ ويحصل على نسبة كبيرة من إمكانية التحقق، لو كانت هناك عناصر جديدة دخلت على مسار المواجهة والردع بين حزب الله و"إسرائيل"، فقرار التنقيب مثلاً، لن يلغي فعالية قدرات حزب الله النوعية التي أصبحت في مكان آخر، كما قال أمينه: "أنجز الأمر". وإنجاز الأمر، بما يعني من مضمون عملي، مفاده أن الصواريخ الدقيقة التي يملكها الحزب، لا شكّ في أنها موزعة الآن على الأهداف الحيوية في داخل العمق الإسرائيلي، بطريقة مدروسة ومتوازنة، لتحقيق أكبر وأخطر ضربة صاروخية خيالية في تاريخ الكيان.
كما أنّ تردّي الأوضاع السياسية والمالية والاقتصادية داخل لبنان لن يحمي العمق الإسرائيلي من تلك الصواريخ، لأن منظومة وإدارة معركة تلك الصواريخ، لا تتأثر بسعر الدولار الأميركي في لبنان، مهما حلَّق، وأيضاً لا تتأثر بمقدمات أخبار بعض وسائل الإعلام اللبنانية المرتهنة أو الإقليمية المُطبّعة، والتي أعلنت الحرب، كما يبدو، نيابة عن العدو، وقبل أن يأخذ المجلس المصغر الإسرائيلي (الكابينت) قرار بدء الاعتداء على لبنان.
الاحتمال الثالث: احتمال ربط النزاع
ينطوي هذا الاحتمال على نسبة كبيرة من المعقولية التي تلامس القناعة بأن هذا هو فعلاً ما تريده "إسرائيل"، وخصوصاً إذا استبعدنا فرضية محاولة فرض أمر واقع لـ"تهريب" التنقيب عبر استغلال الوضع اللبناني المنهار داخلياً، وأيضاً مع استبعاد احتمال أن "إسرائيل تريد الحرب وتخلق من بدء التنقيب في منطقة متنازع عليها ذريعة لتلك الحرب، لأن عناصر الحرب في مكان آخر مختلف بالكامل، وأساساً لم تتغير بالنسبة إلى مستوى الردع وحساسية المواجهة وتوازن الرعب.
لذلك، تريد "إسرائيل" اليوم (وبرعاية وحضانة أميركة) ربط نزاع مع لبنان، يُضاف إلى ربط النزاع الذي تستدرجه واشنطن مع إيران. وتصريحات ترامب المأزوم انتخابياً و"كورونياً" حول جسّ النبض للتفاوض مع إيران، تصبّ في ذلك، حيث إن وضعه الصعب في الداخل أو في علاقاته الدولية يستدعي قيامه بصدمة تنهي اشتباكه مع الجميع حول انسحابه غير المتوازن من الاتفاق النووي، ويكون عنوان هذه الصدمة إنهاء الاشتباك مع إيران وربط النزاع حول إعادة تفاوض على الاتفاق النووي من جديد، وسيحاول إدخال صواريخ إيران الباليستية ونفوذها الواسع في المنطقة ضمن عملية التفاوض، كسبب يخفّف له بعض الإحراج من تراجعه، ويكون لبنان وحزب الله أحد عناصر ربط النزاع، عبر إعادة إحياء وساطة الأميركيين حول الحدود البحرية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً