لعبة عضّ الأصابع مستمرة مع إيران.. هل يصرخ ترامب قريباً؟
لا يمكن لأيِّ متابع للاشتباك الإيراني الأميركي الذي يجري حالياً، إلا أن يكتشف، وبوضوح تام، مستوى الضغوط الأميركية الضّخمة في هذا الصراع، إذ يكاد لا يخلو الوسط الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الدّولي يومياً من ملفّ أو موضوع يتضمّن إشكاليّة معنيّة مباشرة بهذا الصراع. ويبقى السّؤال الّذي يفرض نفسه: متى ينتهي هذا الاشتباك؟ وكيف؟ ومن يرضخ أو يستسلم أولاً؟
هذه الضّغوط الأميركيّة ليست جديدة على طهران، فقد بدأت مع الثورة الإسلاميَّة في إيران منذ بداية الثمانينيات، حين اكتشفت واشنطن أنَّها خسرت نقطة الارتكاز الأقوى والأكثر حساسيّة وتأثيراً في المنطقة، وربما في العالم، ثم تطوّرت من خلال عدّة حروب إقليمية استهدفت هذه الثورة، وعلى رأسها حرب صدام حسين، الّتي خيضت بقرار ورعاية أميركيّين، واستكملت عبر مسلسل متواصل من العقوبات الاقتصادية والسياسية، ما زالت إيران حتى اليوم تتعرَّض لها.
وهذه الضغوط الأميركية الضخمة على إيران ليست سهلة وبسيطة أيضاً، ويمكن اعتبارها من النوع الذكي والمؤلم والمؤثر، إذ إنها تصيب أغلب الحاجات الضرورية والأساسية غير المتوفرة محلياً، وتستهدف نقاط الإنتاج والتطوير، إضافةً إلى أنها تهدف إلى محاولة خنق أهم مصادر تمويل الاقتصاد الإيراني، وهما النفط والغاز، ولكن من قال إنَّ الأميركيين، بقيادة الرئيس ترامب شخصياً، قادرون على الاستمرار في متابعة هذا المستوى المرتفع من الضغوط إلى ما شاء الله، وإنهم قادرون على الثبات في هذا الاشتباك والسيطرة على تداعياته؟
من خلال متابعة موقع الرئيس ترامب حالياً، داخلياً أو دولياً، يمكن رصد النقاط التالية:
- محلياً، كما يبدو، تخلَّت الدولة العميقة عن الرئيس ترامب. وليست قضية عابرة أو سهلة، مثلاً، أن تصدر المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية قراراً مفاده أنَّ ترامب لا يمكنه منع النائب العام في مانهاتن من الاطلاع على السجلات الضريبية، الأمر الذي قد يؤدي إلى كشف أكثر من ملف تهرب ضريبي بحقّه أو بحقّ شركات كبرى يمتلك النسبة الأكبر من أسهمها.
- أيّ متابع يملك حداً أدنى من الموضوعيّة، لا يمكنه أن ينكر الفشل الذريع لإدارة الرئيس الأميركي في مواجهة كورونا. وفي حين تغلق أغلب الدول حالياً - مع بعض الاستثناءات طبعاً- ملفّ الفيروس، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت في بداية المواجهة معه، ونسبة المصابين وحالات الوفاة يومياً تثبت ذلك. وحيث من المستحيل على إدارة ترامب، أو عليه شخصياً، تلافي تداعياته على مستقبله السياسي في الانتخابات، من غير المستبعد أن يُلاحق جنائياً على الأقل في التسبب بموت الكثيرين، لتقصيره في مواجهة الفيروس.
- الاحتجاجات في الشوارع عقب اغتيال جورج فلويد، وما سببته من تصدع مخيف في هيكلية النسيج الاجتماعي الداخلي، وما أظهرته من عنصرية قاتلة تطبع مواقع الأمن والشرطة والمسؤولين في الولايات المتحدة الأميركية. كل ذلك لا يمكن نزع مسؤولية الرئيس الشخصية عما حصل أو إبعادها عنه، إضافة إلى حركة التظاهر الواسعة التي نتجت على خلفية الحادثة، وتمدد التظاهرات إلى المدن المعروفة تاريخياً بتأييدها للجمهوريين قبل الديموقراطيين.
- وكأنّه لم يكن يكفي الرئيس ترامب ما أصابه من سهام بسبب نشر كتاب جون بولتون، الذي كان محسوباً عليه حتى العظم، كما يقال، بما يحويه من أسرار وحكايات وضعته في موقع لا يحسد عليه أمام مؤيديه قبل خصومه، حتى جاء نشر ماري ترامب، ابنة أخيه، كتاباً آخر، بما فيه من فضائح عائلية وجرائم مالية وتهرب ضريبي، ليشكل ربما الضربة القاضية للرئيس المذكور.
- على الصَّعيد الدولي، إنَّ مشاريع القرارات النافذة التي كانت واشنطن تقترحها، ويصدر فيها قرار من مجلس الأمن من دون فيتو روسي أو صيني، أصبحت من الماضي. واليوم، لا يتم تسهيل أي من مشاريع القرارات تلك، إضافة إلى بقاء واشنطن تقريباً وحيدة (من بين الدول الفاعلة طبعاً) في موضوع انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران. كما تتراكم الملفات الضاغطة على الرئيس ترامب، وتتوالى الإخفاقات يومياً، بشكل ينسيه ما سبقها قبل يوم، ومنها:
- فشل ظاهر حتى الآن في بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من عنتريات 3 حاملات طائرات أميركية، فما زالت الصين ثابتة على موقفها. وقد رفعت بكين مستوى المناورات العسكرية في تلك المنطقة الحيوية من المحيط الهادي، وهي تُدخل يومياً ترسانة ضخمة من العتاد الاستراتيجي إلى جزر "البارسيل"؛ موضوع الخلاف العنيف بين واشنطن وحلفائها وبين الصين.
- الهزيمة الواضحة والفاضحة التي أصابت الرئيس ترامب أمام تحدي أسطول الناقلات الإيرانية التي دخلت فنزويلا، وذلك بعد فشله في تنفيذ أي انقلاب عسكري فيها. وفي حين تخضع كل من إيران وفنزويلا للعقوبات الأميركية، ظهرت واشنطن عاجزة عن تطبيق تلك العقوبات، وظهرت أيضاً وكأنها أصيبت في نفوذها التاريخي - الذي من المفترض أن يبقى محصناً - في حديقتها الخلفية أو في عقر دارها في البحر الكاريبي.
- وأخيراً، وليس آخراً، إخفاق أميركي (ترامبي) في حظر إصدار تقرير المحققة الأممية، أنييس كالامار، الخاص باغتيال الفريق سليماني، مع ما حمل من إدانة قانونية وسياسية للرئيس ترامب شخصياً، بصفته المسؤول الأول والأساسي عن إصدار الأمر بتنفيذ عملية الاغتيال، والمسؤول أيضاً عن الخسائر التي تكبَّدتها واشنطن جراء الرد الإيراني في "عين الأسد"، وذلك من الناحية المعنوية أو من ناحية الإصابات المؤكدة بين جنودها وضباطها في عملية الرد الإيراني المشهورة.
من ناحية أخرى، نجد أنَّ إيران، وفي مواجهة هذا المستوى الهائل من الضغوط والعقوبات، صامدة وثابتة على مواقفها، إذ استطاعت حتى الآن، وبمشاركة حلفائها في محور المقاومة، إفشال "صفقة القرن"، وارتباطاً بها إفشال تنفيذ قرار نتنياهو بضمّ أراضٍ واسعة من الضفة الغربية، إضافة إلى تحقيق انتصار أكيد ومحقق في اليمن ضد جبهة واسعة تقودها واشنطن. وبعد أن سخّرت الأخيرة كل قدراتها العسكرية والدبلوماسية والمالية في الحرب على اليمن، نراها اليوم تفتش عن مخرج من هذا المستنقع.
أيضاً، وبكلّ وضوح، تكسر إيران العقوبات على سوريا. وفي الوقت الذي يصوّب الأميركيون والإسرائيليون يومياً على نفوذها في سوريا، فإنها تعقد اتفاقاً عسكرياً مع دمشق، يثبت ويقوي دعمها ومساندتها لها.
وفي النهاية، أصبح واضحاً وثابتاً لكل العالم أن إيران اعتادت على العقوبات الأميركية، وأصبحت طريقة مواجهة هذه العقوبات فيها ثقافة وعقيدة وعلماً. وبينما استطاعت إيران كسب حرب الضغوط والعقوبات في مواجهة واشنطن، يبدو أن أطراف محور المقاومة الذي ترعاه على الطريق للفوز أيضاً في معركة مواجهة الضغوط والعقوبات الأميركية. وكما يبدو، أصبح الوقت قريباً وقريباً جداً لأن يصرخ الرئيس ترامب، أولاً، في لعبة شد الأصابع المشتعلة بينه وبين إيران.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً