هل يمكن ردع الغطرسة الأميركية تجاه المجتمع الدولي؟
بهجومه على المحكمة الجنائية الدولية، لم تكن المرة الأولى التي يصطدم فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع إحدى المنظمات الدولية أو المنظمات ذات الطابع الدولي، فقد عوَّدنا في فترة رئاسته للولايات المتحدة الأميركية وحتى الآن على الكثير من القرارات المماثلة، والتي كانت خارجة عن المألوف في إطار العلاقات الدولية.
وبقدر ما انسحب حتى الآن من عدة اتفاقيات أو معاهدات أساسية، من تلك التي تشكل بمواضيعها حيّزاً أساسياً من الرابط القانوني الذي يرعى العلاقات الدولية ويحفظ حقوق الشعوب والدول، يمكن اعتبار الرئيس الأميركي - وغير الأميركي - الأقل تعاوناً عبر التاريخ مع منظومة القوانين والأعراف الدولية.
هجوم الرئيس ترامب على المحكمة الجنائية الدولية، والذي يعتبر زمنياً الأجدد في سجلّه الهجومي المتخم بالاشتباك مع مؤسسات دولية، تَمثّل في إقدامه مؤخراً على شنّ هجوم عنيف على هذه المحكمة، من خلال إصداره أمراً تنفيذياً يتيح فرض عقوبات اقتصادية وقيود على السفر ضد موظفيها والمعنيين بالتحقيق مع القوات الأميركية ومسؤولي المخابرات المركزية (سي أي إيه) المتورطين بـ"جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" في أفغانستان، وذلك بين العامين 2003 و2014.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي أعرب عن قلقه البالغ من الإجراءات التي أعلنت عنها واشنطن، كما أبدت الأمم المتحدة موقفاً مشابهاً، وقالت إنها سوف تتابع الموضوع، إضافة طبعاً إلى رد فعل المحكمة المستهدفة (الجنائية الدولية)، والتي وصفت الإجراءات الأميركية بأنها "عقوبات تصل إلى حد التهديد والإكراه، وتمثل محاولة غير مقبولة للتدخل في حكم القانون"... ولكن تبقى التساؤلات التي تفرض نفسها: هل يمكن إيجاد رادع بوجه هذه الغطرسة الأميركية تجاه المجتمع الدولي؟ وهل من سبيل يمكن أن يعتمده الأخير لتقييد التسلط الأميركي حول العالم؟ وما هي أوجه هذا التسلّط؟
في الحقيقة، وفي متابعة لمسار العلاقات الدولية عبر التاريخ بشكل عام، والتي كانت واشنطن شريكاً أو مشاركاً أو مؤثراً فيها، بطريقة سلبية أو غير قانونية، لم يحدث أن استطاعت جهة ما التأثير فيها في أي تدخل أو استهداف قامت به في وجه إحدى المنظمات الدولية، وكانت إجمالاً قادرة على فرض رأيها وقرارها من دون أن تترك مجالاً لأي جهة بمنعها أو تقييدها.
صحيح أن الرئيس ترامب ربما كان الأول من بين الرؤساء الأميركيين الذي أوجد حيثية خاصة به في مستوى الاشتباك مع المؤسسات الدولية، ولكن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية مليء بهذا النمط من العلاقات غير المتوازنة مع المجتمع الدولي.
طبعاً، إن قدرة الولايات المتحدة الأميركية على فرض تسلطها عبر العالم تعود إلى عدة أسباب، منها العسكري، حيث تعتبر من الأوائل عالمياً في هذا المجال، ومنها الاقتصادي أو المالي، حيث تملك الاقتصاد الأكثر صلابة في العالم، وتتحكم بواسطة عملتها (الدولار) بأغلب مفاصل الحركة النقدية والمالية والتحويلات عبر العالم، ومنها المتعلق بالنفوذ الواسع، حيث تنسج شبكة أخطبوطية واسعة من العلاقات الدولية، بنتها استناداً إلى حركتها المتشعّبة عبر البحار والدول والمحيطات، إذ تنشر أكثر من 800 قاعدة برية وبحرية حول العالم.
اليوم، صحيح أن واشنطن اعترضت عبر الرئيس ترامب على عمل مرتقب للمحكمة الجنائية الدولية، صادف أنه يتعلق بالتحقيق مع جنود ومسؤولين أمنيين وعسكريين أميركيين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أفغانستان، ولكنها، في العادة، كانت تتدخل في أكثر من مناسبة لتوجيه عمل تلك المحكمة، تقييداً أو عرقلة أو إعاقة، عند شروع الأخيرة بالتحقيق في أي ملف من اختصاصها، وما أكثرها عبر العالم! حول تجاوز القانون الدولي الإنساني أو مخالفة قوانين الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، ولكن لطالما كانت واشنطن تتصرف إزاء أكثر الملفات الدولية من موقع المشاكس أو "المخربط" أو المعتدي أو المهيمن، وذلك تحت العناوين أو الأوجه التالية:
التدخل المباشر عبر شن الحرب
يشهد التاريخ الحديث، وفي الكثير من الملفات، قيام الولايات المتحدة الأميركية بشن حروب مباشرة على دول ذات سيادة، من دون قرار من مجلس الأمن من جهة، بعد خلق ما تسميه "تحالفاً دولياً"، تجمع لتغطيته عدة دول من تلك التي تدخل ضمن منظومتها السياسية. ومن جهة أخرى، تشن الحرب مع قرار من مجلس الأمن، كانت تفرضه فرضاً في أغلب الأحيان، إما بضغوط على الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، وإما من خلال خلق أكاذيب وتبريرات غير واقعية، كما حصل في أفغانستان أو العراق. وأثناء الغزو أيضاً، الذي يكون بالأساس مخالفاً للقوانين الدولية، كانت تتخذ إجراءات أو تقوم بأعمال من خلال جنودها، تخالف عبرها قوانين الحرب والقوانين الإنسانية أو تستعمل فيها أسلحة محرمة دولياً.
التدخل غير المباشر
كان يتم عبر اعتماد واشنطن أسلوب التحريض بين دول ضد أخرى، من خلال الدخول في صراعات أو خلافات تاريخية موجودة أساساً، والعمل على تغذيتها وتفعيلها، كما حدث بين الكوريتين الشمالية والجنوبية أو بين الصين ودول محيطة بها (التايوان والفيليبين واليابان وغيرها)، على خلفية خلافات حدودية بحرية أو خلافات على امتلاك جزر وما أشبه.
ويتم أيضاً عبر أسلوب التحريض داخل الدولة الواحدة بين مجموعات مختلفة، وتحت عناوين مختلفة، سياسية أو مذهبية أو عرقية وغيرها، أو تحت عناوين رنانة تعطيها طابعاً ديموقراطياً، كحماية الحريات العامة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
هذا التدخل الأميركي طال مروحة واسعة من الدول في الشرق الأوسط أو في آسيا أو أميركا الجنوبية، ووصل إلى أوروبا في بعض الأحيان.
تغطية الاحتلال الإسرائيلي
التدخل الأميركي الداعم للاحتلال الإسرائيلي فاق بحدّته ومستواه أغلب تدخلات الولايات المتحدة عبر العالم. وقد تم، ويتم حالياً، عبر الضغط على دول عربية وإقليمية معنية بموضوع مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، أو من المفترض أن تكون معنية به. وملف التطبيع مع هذا العدو ماثل أمامنا بطريقة ومستوى التدخل الأميركي فيه.
من جهة أخرى، عمدت واشنطن إلى التدخل في دعم الاحتلال الإسرائيلي، عبر الضغط على المنظمات الدولية المعنية، من أمم متحدة ومجلس أمن ومحاكم وهيئات دولية. ولم تكن المحكمة الدولية الجنائية بعيدة عن الضغط والتوجيه الأميركي نحو ابتعادها عن التحقيق أو متابعة قضايا وجرائم إسرائيلية تدخل ضمن اختصاصها، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واستعمال أسلحة محرّمة دولياً.
إزاء هذا الوضع غير الصحيح، والمتعلق بموقع الولايات المتحدة الأميركية النافر وغير العادل تجاه القانون والعلاقات الدولية، هل يمكن للمجتمع الدولي إيجاد آلية معينة لمواجهة هذا الموقف الأميركي أم أن هناك استسلاماً كاملاً لمشيئة واشنطن؟