طوفان الأقصى… من التحرير إلى ما بعد رئيسي
ما إن تمّ الإعلان عن استشهاد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان حتى انطلقت تكهّنات سياسية متباينة الدوافع حول مستقبل الجمهورية الإسلامية في إيران، ترافقت مع إطلاق تحليلات عن أسباب سقوط الطائرة الرئاسية، مع تركيز واضح على دور الصراعات الداخلية قبل أن تظهر نتائج تحقيق ثلاث لجان مكلّفة بالتحرّي عن سقوط الطائرة، بما ينمّ عن عدم إدراك لبنية الدولة بعد الثورة عام 1979، إذا ما استثنينا الدوافع الاستخباراتية لنشر هذه السردية في إطار الصراع الإقليمي والدولي.
مضت قرابة ربع قرن على الهزيمة المعلنة الأولى للكيان الصهيوني بعد انسحابه من جنوب لبنان عام 2000 من دون أي قيد أو شرط، ومن جهة أُخرى كان الانتصار الأول الذي يتحقّق في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، بأن تتمكّن مقاومة جديدة بدأت في عام 1982 بعد اجتياح "الجيش" الصهيوني للبنان ووصوله إلى بيروت بعد عجز مجموعات قوى المقاومة السابقة النشأة قبل هذا التاريخ عن إيقاف الاجتياح، في ظل ظرف دولي ثنائي القطبية يتيح لها أن تستند إلى الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى في مواجهة الاجتياح المرتبط بالنظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
انبثقت مقاومة جديدة بنواة صغيرة في عام 1982 متأثّرةً بالزلزال الجيوسياسي الذي هزّ العالم بتداعياته غير المُتخيّلة لأغلب القوى الدولية والسياسية، التي لم تكن تتخيّل حدوث ثورات شعبية بهذا الحجم، وفي جغرافيا سياسية ذات أهمية قصوى في الصراع الدولي، خارج نطاق القطبين الحاكمين لمسارات السياسة والاقتصاد والاجتماع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مستندةً ـــــ المقاومة ـــــ إلى فتوى شرعية من قائد الثورة ومفجّرها "روح الله الخميني"، وفي ظرف تاريخي لا يتيح لها النجاح من خارج إطار دعم دولة عظمى تقف خلفها.
استطاعت هذه المقاومة بعد أن أعلنت عن نفسها باسم "حزب الله" أن تحقّق أهم إنجاز تاريخي معاصر في 25 أيار/مايو عام 2000 آنذاك، رغم تغيّر الظروف الدولية مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي الذي بدأ مع استلام ميخائيل غورباتشوف رئاسة الحزب الشيوعي عام 1985، وهو عام إعلان المقاومة عن اسمها السياسي العسكري.
وما يميّز هذا الإنجاز هو تحقّقه في ظل غياب توازن دولي يتيح هامشاً أكبر لحرية الخيارات، وله معنى آخر: فانسحاب "الجيش" الصهيوني كان بمثابة أول هزيمة للنظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة بعد استفراده بالعالم أجمع وبسط سيطرته عليه، وما كان لهذا الإنجاز أن يتحقّق لولا التداخل لحد الاندماج في المشروع المقاوم بين إيران الثورة والدولة وبين المقاومة في لبنان، بالإضافة إلى دور سوري كبير شارك بالانتصار، بعد أن أيقنت سوريا بأهمية هذه المقاومة في منحها دوراً إقليمياً فاعلاً بعد عام 1993، يحميها من طغيان الدور الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
يعتبر هذا الإنجاز الأول كثمرة لإيران الجديدة بعد الثورة وبعد حرب السنوات الثماني مع العراق، ووفاة قائد ثورتها 1989 وبدء عملية الإعمار من تحت الصفر، المترافقة بنظام سياسي فريد ينسجم مع العمق التاريخي والثقافي للإيرانيين، استطاع أن يتجاوز الكثير من العقوبات الشديدة والكثير من المواجهات غير المباشرة في محيطها الإقليمي مع الولايات المتحدة، وسط تباين بين التيارات السياسية المتعددة داخل بنية النظام السياسي حول طبيعة العلاقة مع الغرب، وهو تباين شديد خاصةً ما يتعلق بضرورة هذه العلاقة من عدمها.
فنتيجةً لهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي وقدرتها على فرض عقوبات اقتصادية مؤذية أحادية الجانب على أي دولة من خارج الإطار القانوني للأمم المتحدة، دفعت ببعض التيارات السياسية للعمل على إصلاح العلاقة مع الغرب ضمن صيغة براغماتية تحفظ المصالح الوطنية الإيرانية كدولة بما قد يتناقض مع بعض الشرعية التأسيسية للثورة التي بنيت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران.
سقطت رهانات نجاح العلاقة مع الغرب بعد إلغاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاتفاق النووي طويل الأجل في عهد الرئيس حسن روحاني، مما ثبَّت رؤية مرشد الثورة السيد الخامنئي باستحالة الركون للعلاقات مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي التي عجزت عن تنفيذ الاتفاق بمعزل عن الإدارة الأميركية، مما فتح المجال واسعاً لإعادة ترتيب الخيارات السياسية الداخلية على أرضية شعبية واسعة ومجيء السيد إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية، وسط انسجام واضح بين مؤسسات المرشد والسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية ومجلس الأمن القومي الإيراني، ومؤسسة مجلس الخبراء ومؤسسة تشخيص مصلحة النظام.
وهذا ما انعكس بشكل إيجابي أكبر على قوى المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، فكان "طوفان الأقصى" الذي زلزل النظام الغربي بأكمله في كامل منطقة غرب آسيا مع الارتدادات التي وصلت إلى قلب النظام الغربي، كما انعكس أيضاً بالمزيد من التقارب مع القوى الآسيوية الناهضة المتمثّلة بروسيا والصين، مما عزّز من دور إيران في تحالف الشرق واعتبارها ركناً أساسياً لا غنى عنه.
لا شكّ في أن رحيل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومعه وزير الخارجية المميّز حسين أمير عبد اللهيان وبقية الشهداء بمثابة خسارة كبيرة، وخاصةً إذا ما وضعناها ضمن سلسلة الخسارات الكبيرة التي بدأت منذ بداية الثورة، وخاصةً مع استشهاد قاسم سليماني قائد فيلق القدس ومحسن فخري زاده أب المشروع النووي الإيراني ورضي الموسوي ومحمد رضا زاهدي.
وهي الشخصيات الأكثر إخلاصاً للشرعية التأسيسية للدولة بعنوان تحرير فلسطين ودعم المستضعفين، لكن تركيبة بناء النظام السياسي في إيران تتيح تعويض الخسائر بسرعة قصوى، وهذه التركيبة لا تسمح لأيّ طرف من القوى السياسية بالاستئثار بالقرار السياسي والاقتصادي والعسكري نتيجةً للتوازن بين مؤسسات الدولة التي ذُكرت سابقاً.
فالتباينات السياسية منذ بدء الثورة لم تغيّر من مساراتها وأهدافها، هي أيضاً لا تستطيع ذلك بعد استشهاد السيد رئيسي، ويكفي أن ننظر لحجم الحشود المليونية الهائلة التي خرجت في تشييعه كتعبير عن الشرعية الشعبية الكبيرة للنظام السياسي في إيران وقدرته على تجاوز المحن التي يمرّ بها، وسقوط الرهانات الغربية على إمكانية تآكل النظام السياسي للجمهورية من الداخل.
هناك مؤشران مهمان جداً للتعبير عن مرحلة ما بعد الرئيس إبراهيم رئيسي، والأول هو سرعة اجتماع مجلس الخبراء ومؤسسات الدولة وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية وموعد تقديم طلبات الترشيح، والثاني هو استقبال مرشد الثورة السيد الخامنئي لرئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية الذي شارك في التشييع، واجتماع قادة الحرس الثوري وقوى المقاومة في غرب آسيا، الذي تمخّضت عنه رسائل تصعيد واضحة وسقوط أكبر عدد من القتلى والإصابات في غزة وجنين وشمال فلسطين المحتلة وفقاً لاعترافات إعلام الكيان، بتأكيد واضح لاستمرار نتائج عملية "طوفان الأقصى"، وبمزيد من تراكم القوة لقوى المقاومة، ومزيد من التآكل للنظام الغربي في فلسطين المحتلة استكمالاً لعملية التحرير منذ عام 2000.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة