إدلب وانفجار التّناقضات الإقليميّة والدوليّة
أصبح من الواضح أنَّ الصّراع العسكريّ في إدلب ليس صراعاً محلياً بين نظامٍ سياسيٍّ ما زال يحافظ على شرعيَّته الدولية القانونية، ومعارضةٍ سوريةٍ متمركزة فيها، بل هو تظهير للصّراع الدولي والإقليمي في الأرض السّورية وعليها.
هذا الصّراع يأخذ شكله الأخير في ما تبقّى من مساحةٍ للمجموعات المسلَّحة التكفيرية التي تجمّعت من كلّ أنحاء الأرض في مناطق إدلب وعفرين وجرابلس والباب، وأُضيف إليها تل أبيض ورأس العين، بل إنّها تشكّل تمركزاً له بعد انحساره من بقيّة الأراضي السوريّة، بفعل التحالف العسكريّ الروسيّ الإيرانيّ السوريّ، الذي يعدّ امتداداً للتحالف السياسيّ لهذه الدول، يضاف إليها الصين كركن أساسيٍّ فيه.
والمعركة في هذه المنطقة ذات صدى دولي وإقليمي عميق التأثير في الخارطة الجيوسياسية الَّتي هي في طور التشكّل. ويبدو واضحاً الاصطفاف الإقليمي والدولي في معركة إدلب.
يدرك الجميع أنَّ مستقبل الإقليم يعتمد على نتائج المعركة، فالطّرف الذي يستطيع حسمها سيكسب محطةً من محطات الصراع الدولي في مناطق واسعة من العالم. وربما تكون من أهم المعارك الدوليَّة، لما يترتب عليها من نتائج قد تكون حاسمةً لمسارات سياسية تتعلَّق بالعديد من الدول.
على المستوى الإقليمي، نجد أنّ الدولة السورية هي أحد أشدّ المصمّمين على تحرير إدلب، لما في ذلك من حسمٍ لجملةٍ من المسائل، تبدأ من مسألة التصميم الواضح والجازم على استعادة السيادة الكاملة على الأرض السورية كافة، وإسقاط كلّ المشاريع التفتيتية التي تم العمل عليها، سواء كان على مستوى مناطقي أو طائفي أو إثني.
وإذا ما استطاعت تحرير إدلب، فإنَّ ذلك سيدفع باتجاه تغيير الحلّ السياسيّ الذي يعمل عليه كلّ المحور الغربي، إضافةً إلى الدول الإقليمية المتنازعة على طبيعة هذا الحلّ، استناداً إلى الصّراع القائم في ما بينها على التموضع الجيوسياسي للدولة السورية.
وأكثر ما تستهدفه دمشق بهذه العمليّة هو تقليص الدور التركي السلبيّ، الّذي سيكون المتضرّر الأكبر في حال نجحت دمشق وحلفاؤها في تحرير كامل إدلب، وخصوصاً ما يتعلّق بالحلّ السياسي الَّذي يتم العمل عليه استناداً إلى مظلّة سوتشي بين روسيا وإيران وتركيا، وبقبول دولي واضح في الأمم المتحدة.
وبالتالي، ستغيّر مسارات الحلّ السياسيّ، ليصبح بعيداً عن التدخّل الغربيّ بشكل عام، والتركي بشكل خاص، وتأخذ به باتجاه مسار داخلي بين السوريين أنفسهم في دمشق، وإسقاط المعارضة التي تتبناها تركيا، وما يعنيه ذلك من إعادة رسم معالم تصوّر جديد لسوريا بدور إقليمي يحفظ وجودها، وما سيتركه من مفاعيل على العمليّة السياسيّة ورسم المستقبل السياسي لسوريا، وبدور إقليمي يحفظ وجودها أيضاً.
في المقابل، ستدرك تركيا أنّ طموح التمدّد نحو الجنوب انتهى، وسيكون له الأثر الكبير في المستقبل السياسيّ للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الّذي بدأ بتقويض منجزات النمو الاقتصادي والسياسي للدولة التركية خلال العقود الماضية، ووسّع دائرة خصومه الَّذين يتكاثرون حوله، ما يتيح للقوى السياسية المعارضة استعادة زمام الأمور في أيّ انتخابات قادمة وإسقاطه.
كذلك الأمر بالنّسبة إلى روسيا والولايات المتحدة الأميركية، فلكلٍّ منهما حساباته الخاصّة، والأمر يعنيهما من حيث النتائج. تعتبر الولايات المتحدة الأميركية أنَّ خسارتها لإدلب ستنعكس على دورها في سوريا بشكل خاصّ، ولا سيما أنها تمتلك زمام 90% من المجموعات المسلّحة.
هذه الخسارة تعني فقدانها ورقة ضاغطة على دمشق وموسكو وبكين وطهران، بحكم امتداداتها في هذه الدول، والأثر الذي يمكن أن تتركه في أشكال الاستقرار الاقتصاديّ والأمنيّ ضمن الصّراع المستمرّ.
تدرك الولايات المتّحدة أنَّها تخوض صراعاً مُحَدِداً لدورها العالمي، مفتاحه الأساس في سوريا والعراق، كما تدرك أنَّ خسارة معركة إدلب ستؤدي حتماً إلى انتقال دمشق وحلفائها إلى بقيَّة المناطق، وخصوصاً شرق الفرات، وما يعنيه ذلك من آثار سلبيّة في وجودها في العراق أيضاً.
كذلك الأمر في روسيا، فهي تدرك أنَّ إدلب، بما تضمّ من مجموعات مسلحة، تشكّل مجموعةً من التهديدات عليها، فهي توفّر مكاناً آمناً لكلِّ الذين يمكن استقطابهم من الاتحاد الروسي وتدريبهم عسكرياً وعقائدياً، ثم العودة بهم إليها لزعزعة استقرارها.
كما أنَّها تشكّل وسيلة ضغط لتركيا، كي تمارس الابتزاز السياسي والأمني لتحقيق الطموحات العثمانية الجديدة، والتي تحمل بطبيعة توجّهاتها تهديداً للأمن القومي الروسي ومنعه من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
لا يبتعد موقف بكين عن كلّ ذلك في هذه المعركة، وإن كان غير واضح إلا سياسياً عبر مجلس الأمن، وهي تراقب سير العمليات العسكرية التي من المفترض أن تنتهي بحرمان المجموعات الإيغورية من بيئة استقطابية آمنة للتدريب العسكري والشحن العقائدي، تستثمرها الولايات المتحدة لزعزعة النهضة الصينية، بزعزعة استقرارها في إقليم شينغيانغ.
في خطوةٍ واضحة المعالم، ذهبت كلّ القوى إلى التصادم المباشر في ساحة إدلب، بحكم تناقضات مبادئ الدول ومصالح أمنها القومي، بما يذهب إلى تحديد أحجام الجميع ورسم الأدوار في نظام إقليمي ودولي في طور التشكّل، وبما يصوغ صورة واضحة عن أنَّ إمكانية الجمع والتوليف بين المتناقضات لا يمكن أن تستمرّ، ولا بدَّ من حسم جملةٍ من المسائل التي تجعل حدود القوة في ما بينها صاحبةَ الدور الأساس في تحديد دور كلّ دولة من الدول في نظام إقليمي ودولي جديد، يفرض على تركيا أن تحدد موقفها ودورها فيه، ويدفع الولايات المتحدة إلى رحلة الخروج من غرب آسيا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً