طوفان الأقصى… والانسحاب الأميركي؟
كان من تداعيات عملية "طوفان الأقصى" أنها حركت حالة الاختناق التي وصلت إليها منطقة غرب آسيا، والتي أرهقت بشكل واسع وعميق قوى المحور المقاوم بشكل متفاوت من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، وفرضت على الأميركيين، الأكثر تحكماً في مسارات المنطقة، إعادة التفكير في مشروع جديد يستوعب ارتدادات العمليات العسكرية المتناسقة على كل جبهات المواجهة، ما أدى بالإعلام الأميركي إلى الكشف عن انسحاب أميركي من سوريا والعراق ثم نفيه على لسان المتحدثة الأميركية فيكتوريا نولاند، ما يطرح السؤال الأهم في المرحلة القادمة "هل الانسحاب الأميركي من سوريا حتمي ووشيك"؟
لم يتوقع الأميركيون مثلهم مثل بقية الأطراف أن تذهب حركة حماس ومعها بقية قوى المقاومة في غزة بعيداً بتهشيم درة النظام الغربي في أهم منطقة في جغرافيا السياسة العالمية، كما لم يتوقعوا أيضاً بأن تذهب قوى المقاومة إلى تطبيق نظرية "وحدة الساحات" عملياً، وتجاوزها ما يعدّ خطوطاً حمراء باستهداف قاعدتهم العسكرية في شمال شرق الأردن وقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح 34 آخرين، كما لم يتوقعوا أن يتجرأ اليمنيون على ضرب سفنهم وبوارجهم الناقلة والحربية، وما يمكن أن يؤدي ذلك إلى المزيد من تآكل الهيبة الأميركية الحربية، بما يمكن أن يدفع إلى انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة قد تدمرها، وتهاوي البنيان الإقليمي الذي عملوا عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أتى تسريب فكرة الانسحاب من أربع وسائل إعلامية أميركية، وقد سبقها تسريب البنتاغون مقترحاً أميركياً إلى حلفائه الكرد السوريين (قسد) في الحملة ضد "داعش" بالدخول في شراكة مع "النظام السوري"، بما يعكس مقاربات جديدة للملف السوري لدى وزارة الخارجية الأميركية، ويأتي رفض المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بات بايدر الإجابة عند سؤاله عن هذا المقترح الذي سرّبته صحيفة "المونيتور"، ليؤكد ما يجول ضمن مراكز صناعة القرار، ليس حول سوريا فقط بل على مستوى منطقة غرب آسيا بأكملها.
ترافق التسريب الأميركي حول الانسحاب من سوريا مع الإعلان عن مفاوضات مع الحكومة العراقية لجدولة انسحاب ما يسمى "قوات التحالف الدولي" من العراق، وقد تم عقد أول جولة من المفاوضات مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قبل الهجوم التصعيدي الكبير للمقاومة العراقية على البرج 22 ضمن الحدود الأردنية.
أهمية الحضور الأميركي في سوريا ومنطقة غرب آسيا بالنسبة إلى واشنطن
- يأتي في مقدمة أهداف الوجود الأميركي تأمين الحماية الكاملة للكيان الإسرائيلي ضمن بيئة اجتماعية مقاومة لاستمراره، والذي لا يمكن أن يتحقق إلا باستمرار سياسات الإنهاك والإضعاف والاستنزاف المتواصل للدول التي ما زالت ترفض عملية إدخال الكيان في النسيج الإقليمي وتقبل دوره الأعلى كمدخل للنظام الغربي.
- منع التواصل الحقيقي بين دول الهلال الخصيب، وما يمكن أن يشكل ذلك من مخاطر على استمرار النظام الإقليمي الحالي، الذي ولد بعد الحرب العالمية الأولى كإحدى النتائج الأساسية لها.
- ما يحققه الاحتلال الأميركي من منع إيران وشركائها في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين من السيطرة على المنطقة الممتدة من شرق المتوسط إلى الهضبة الإيرانية، وانفتاح طرق الممرات البرية حتى شانغهاي في الصين، وما يحمل ذلك من مخاطر سيطرة الأميركيين على الممرات البحرية.
- ضبط إيقاع القوى الإقليمية في المنطقة الأهم في العالم، ورسم حدود المواجهات والمنافسات الإقليمية، وخاصةً تركيا المتضررة من الاحتلال الأميركي، من جراء عدم السماح لها باستكمال احتلالها لبقية المناطق الشمالية في سوريا، بذريعة مكافحة الإرهاب واستئصال "قوات قسد" التي لم تقم بأي عمل إرهابي داخل تركيا.
5- المحافظة على وضعية الانقسام السوري إلى أجل غير مسمى بمنع الحلول السياسية التي لا تريدها حتى الوقت القريب، ما يبرر بقاء البيئة المضطربة أمنياً وسياسياً واجتماعياً واستخدامها كذريعة لبقاء قوات الاحتلال الأميركي بحجة مكافحة تنظيم "داعش" الذي صنعته، والذي تحوّل إلى ذريعة لبقاء مصالح الأطراف المتعددة المستفيدة من استمرار التمزق السوري.
6- رسالة تطمين إلى القوى الإقليمية والسياسية والعسكرية التي تعمل تحت المظلة الأميركية في منطقة غرب آسيا بأكملها، ومنعها من البحث عن شراكات سياسية واقتصادية مختلفة، تؤمن الضمانات المطلوبة لاستمرار دولها وسلطاتها ومصالحها.
دوافع الإعلان عن الانسحاب الأميركي؟
1- إدراك الأميركيين استحالة احتواء نتائج عملية "طوفان الأقصى" بعد المهلة الطويلة التي تم منحها إلى الإسرائيليين لتحقيق أهدافهم باستئصال حركة حماس وبقية حركات المقاومة وتهجير فلسطينيي غزة في اتجاه مصر، والذي ترافق مع عودة القضية الفلسطينية إلى مراكز صدارة الاهتمام العالمي كقضية لا يمكن تجاوزها.
2- الخشية من ارتفاع مستوى العمليات العسكرية لجبهة المقاومة وعدم الذهاب في اتجاه توسع المواجهات العسكرية بعد المأزق الكبير في اليمن وسوريا والعراق، والمزيد من التورط الأميركي في منطقة غرب آسيا، ما أظهر للأميركيين أنهم لم يعودوا يستطيعون التحكم بنتائج الصراع، وهم الذين حددوا صراعهم الأساسي مع الصين باعتبارها الخطر الاستراتيجي الأهم على استمرار هيمنتهم على النظام العالمي وفقاً لما حدده أخيراً رئيس الاستخبارات الأميركية وليم بيرنز.
3- يأتي الإعلان غير الرسمي عن الانسحاب الأميركي من سوريا بعد القلق الذي أصاب الديمقراطيين في أميركا من جراء انخفاض فرص نجاحهم في الانتخابات الرئاسية القادمة، وارتفاع حظوظ الرئيس السابق دونالد ترامب المعادي لبقاء أكثر من 800 قاعدة عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة، ونيته إكمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وهو القريب من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي يطمح إلى استكمال احتلاله للشمال السوري كبديل من الأميركيين.
4-حاجة الأميركيين إلى نشر أجواء التهدئة في المنطقة ككل، والإيحاء بالذهاب نحو حلول كاملة لكل الاضطرابات والصراعات المدمرة والمزمنة، بما يوفر بيئة إيجابية للمفاوضات غير المباشرة مع إيران وسوريا وحزب الله وأنصار الله في اليمن، ويُبقي على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في صراعها على استمرارها كقوة عظمى وحيدة.
هذه هي دوافع وجود قوى الاحتلال الأميركي في سوريا والعراق، وأيضاً دوافع الإعلان عن الانسحاب من البلدين، ويبقى السؤال: هل فعلاً سينسحبون؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه في الجزء الثاني.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة