البابا يزور النجف..انه لقاء القرن.
شكل المسيحيون في هذا المشرق الكتلة السكانية العظمى قبل مجيء الإسلام. وبالرغم من سيطرة المسلمين، إبان حكم الخلفاء الراشدين ثم الدولة الأموية ولاحقاً العباسية، على مسارات صناعة التاريخ في منطقة الحضارات، فإن أغلبية سكان المنطقة كانوا من المسيحيين الذين ساهموا في بناء الدول بفعل خبراتهم الإدارية والعلمية، ولَم يتعرضوا بالعموم للضغوط والمجازر كبقية المكونات، وهم بالأساس يشكلون سكان المنطقة الأكثر أصالة.
تعرض مسيحيو المشرق لضغط كبير بعد نجاح الغرب في حملاته "الصليبية" المتلاحقة، وسيطرته على غرب بلاد الشام والرها وصولاً إلى مناطق دلتا مصر باسم الصليب، بعدما أطلقها البابا أوربان الثاني عام 1095 وتعرضت فيها القسطنطينية عاصمة المسيحية الأرثوذكسية للنهب والاغتصاب أثناء الحملة الأولى. خلال هذه الفترة مورست بحق المسيحيين المشرقيين المجازر وتم تهميشهم وخاصةً في القدس، فكان هذا الدافع الأول لتحول جزء كبير منهم نحوالإسلام، وبدأ المسلمون يشكلون أغلبية نسبية في هذا المشرق، ومع ذلك بقي المسيحيون يشكلون نسبة وازنة من مجموع السكان.
بدأ التأثير الغربي الثاني والكبير على مسيحيي المشرق مع دخول نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798، وبدء الصراع الغربي الغربي بين فرنسا وبريطانيا على المنطقة بأكملها، فكان المسيحيون مثلهم مثل بقية الأطراف أدوات في الصراع ومركزاً للاستهداف بنفس الوقت، خاصةً مع بداية ضعف الدولة العثمانية ودخولها مرحلة الرجل المريض، ما أتاح لهذه الدول العبث بمكونات النسيج المشرقي والدفع نحو صراعات الهويات الدينية، ما ترك آثاره على مسيحيي المشرق الذين اندفعوا للهجرة إلى الأميركيتين وإلى أوروبا مع عدد كبير من الأقليات الدينية المسلمة في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكانت إحدى الدوافع الخفية للفرنسيين نحو دفع المسيحيين إلى الهجرة هي قدرتهم الكبيرة على تسويق البضائع الفرنسية في معظم أنحاء العالم حيث ينتشرون.
تطور المشروع الغربي لإفراغ المشرق من مسيحييه عبر تسهيل عمليات الهجرة، والضغط عليهم من خلال تعريضهم للقتل وتفجير الكنائس باستخدام الإسلام السياسي التكفيري، وذلك لتحقيق مجموعة من الأهداف، أولها التخلص من مشرقيتهم المعادية بشدة لليهودية ومنتجها الصهيوني المتمثل بـ"إسرائيل".
عمل الغرب أيضاً على إدماج المسيحيين المشرقيين المهاجرين في المجتمع الغربي حيث تسيطر الكنيسة الإنجيلية، ما يسبغ على المشرق لوناً دينياً واحداً يوفر السبل لنجاح الإسلام السياسي في بناء دولة، بل دول، استناداً إلى الدين الإسلامي، الأمر الذي من شأنه أن يشرعن بقاء الدولة الصهيونية على أساس أنها دولة يهودية خالية من المسلمين والمسيحيين، ويجعل من هذه الدولة آمنة في بيئة من الصراعات البينية بين المسلمين الذين لم يخرجوا بعد من صراع الهويات التاريخية حتى داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة، ويسمح لتل أبيب بأن تتولى إدارة الصراعات لمصلحتها وتحقيق مكاسب اقتصادية بفعل تفوقها التكنولوجي.
لم يكن مسيحيو العراق خارج الاستهداف الغربي مثلهم مثل مسيحيو سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر، لكنهم في العراق تعرضوا لضغوط متزايدة خاصةً بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وإطلاق المجموعات التكفيرية بدعم من المملكة العربية السعودية وقطر لصالح الولايات المتحدة، فنالهم من الضغوط والتفجيرات ما نال بقية العراقيين، ودُمرت كنيسة النجاة في بغداد عام 2010، برسالة واضحة لهم بعدم البقاء في العراق ودفعهم نحو الهجرة، خاصةً نحو الدول الإسكندنافية.
تطور الأمر أكثر بعد اجتياح تنظيم داعش للموصل وسهل نينوى عام 2014 حيث يتمركز الآشوريون بكثافة، ما دفعهم إلى إخلاء سهل نينوى والتوجه نحو بغداد، وبذلك أتاحوا الفرصة لأربيل كي تملأ الفراغ الذي كانت تطمع به وتنتظر المبررات للاستيلاء على السهل وضمه كما كركوك.
سرعان ما انخفض عدد الآشوريين من نحو 700 ألف إلى نحو 400 ألف بعد أن كان عددهم في مرحلة من المراحل يصل إلى نحو مليونين و400 ألف نسمة، ولا يوجد إحصاء دقيق الآن حول تعدادهم السكاني، والأمر مشابه لما حدث للمسيحيين في سوريا حيث كانت نسبتهم من مجموع عدد السكان مع بداية القرن العشرين بحدود 25 % وبدأ بالانحدار سريعاً ليصل إلى نسبة 5.8 % عام 2004، ولا يوجد الآن إحصاء دقيق لنسبتهم التي يمكن أن تكون قد هبطت إلى ما دون 2 % في أخبث عملية تفريغ لهم.
تأتي زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق في جو سياسي دولي شديد التعقيد، خاصة بعد عودة الدولة العميقة في الولايات المتحدة إلى الإمساك بكامل مفاصل الدولة الأميركية، ومحاولاتها القضاء على مخلفات سياسات دونالد ترامب التي خلخلت سياسات العولمة وآثارها على ما حلفاء واشنطن، وفِي جو شديد العداوة لروسيا والصين باعتبارهما المصدرين الأساسيين لتهديد مكانة الولايات المتحدة. من هنا تأتي أهمية احتواء إيران وضرورة التفاهم معها بمغريات تدفعها للخروج من تحالفها غير المعلن مع هاتين الدولتين والعودة للإتفاق النووي بمغريات رفع العقوبات الاقتصادية الشديدة، وهذا يقتضي بطبيعة الحال إخراج العراق من مكانته الجيوسياسية الكبرى في غرب آسيا، ما يقطع التواصل البري بين شاطئ البحر الأبيض المتوسط وإيران، وبالتالي الصين وروسيا بمشروعيهما الكبيرين اللذين يرتكزان على الموقع الجيوسياسي لإيران، والأمر يحتاج لإخراج العراق من محور طهران- دمشق تحت عنوان تحويله إلى ساحة للحوار مع طهران وليس ساحة صراع، ما يدفع إلى إيقاف المقاومة العراقية لعملها ورميها السلاح، واتخاذ الحوار وسيلة وحيدة، وهذا ما كان واضحاً في كلمة الرئيس العراقي برهم صالح لدى استقباله نياڤة البابا فرنسيس، والأكثر من ذلك دعوته إلى تأسيس "دار إبراهيم" للحوار بما يتقاطع مع صفقة القرن والتطبيع الذي تم تسميته باتفاق إبراهيم.
الأمر الواضح أن هناك تعويلاً كبيراً على لقاء المرجع الديني الأكبر السيد علي السيستاني، صاحب التأثير الكبير على العراقيين، والوصول إلى اتفاق أو تفاهم حول إخراج العراق من كونه ساحة صراع بين محور المقاومة والعراقيين المقاومين للمشروع الأميركي من جهة وبين الولايات المتحدة والعراقيين المؤيدين لبقاء الاحتلال الأميركي الجديد بعد عودته بحجة محاربة تنظيم داعش الذي صنعته بمساعدة كبيرة من المملكة العربية السعودية.
قد تكون هذه هي الدوافع الخفية لزيارة البابا إلى العراق التي تجعل من طهران أكثر قابلية للقاء مع واشنطن، بفقدانها للعلاقة الاستراتيجية مع العراق، أما المسيحيون العراقيون والسوريون وفِي بقية مناطق الهلال الخصيب فسوف يبقون في موقع النزف المستمر، ولا يمكن إيقاف ذلك إلا بهزيمة المشروع الغربي، وإعادة بناء الدول بما يؤمن بقاؤهم ضمن إطار سياسات المواطنة الكاملة.
أما عودتهم إلى بلادهم وهم أُصيلون فيها، فلا يمكن أن يحصل إلا بالقدرة على عودة استقطابهم من خلال نموذج للدولة أكثر بريقاً من الدول التي هاجروا إليها، وهذا لن يحصل إلا بتغيير جذري عميق وهادئ على مستوى الدولة وعلى مستوى الإقليم بشكل متساوق مع بعضهما البعض.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً