"طوفان الأقصى وأستانا"… ما الجديد؟
طغت معركة "طوفان الأقصى" وتداعياتها، من الحرب البرية على غزة وتدمير أغلبيتها، على كل الملفات الحارَّة على مستوى العالم، بما في ذلك الحرب السورية التي سيطرت على واجهة الأحداث العالمية منذ عام 2011 إلى حين اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، واستعادت سوريا شيئاً من الاهتمام، ليس انطلاقاً من أهميتها الذاتية، بل بسبب الخشية من انفجار الحرب في فلسطين نحو محيطها الإقليمي بمحاولة هروب "الجيش" الإسرائيلي إلى لبنان وسوريا، وتوريط الولايات المتحدة في حرب كبرى لا يريدها أحد.
جاء الاجتماع الحادي والعشرون الأخير لـ"صيغة أستانا" في ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد والاضطراب، بعد أن توسعت وتصاعدت المواجهات بين محور المقاومة والمحور الغربي، ممثلاً بالولايات المتحدة وبريطانيا و"إسرائيل"، في أغلبية الساحات الحارَّة، بما في ذلك سوريا، التي شهدت تزايداً واضحاً في الهجمات العسكرية على قواعد الاحتلال الأميركي في شمالي سوريا وشرقيها وفي منطقة التنف، مع استمرار الهجمات الجوية الصاروخية الإسرائيلية والاغتيالات داخل الأراضي السورية، واستمرار الهجمات العسكرية للجماعات المسلحة في إدلب.
على الرغم من استمرار الحرب على غزة وتصاعد المواجهات العسكرية، فإن اجتماع أستانا تم استناداً إلى جملة من الدوافع، فكان الدافع الأول هو المحافظة على الحد الأدنى من الاستقرار، كون الساحة السورية هي الأضعف بين كل الساحات بفعل الحروب المتعددة التي خيضت فيها، وهي الأكثر قابلية لاندفاع "الجيش" الإسرائيلي الباحث عن نقطة ضعف تتيح له تحقيق انتصار جزئي يعوّضه من فشل استرجاع هيبته الرادعة، والتي تحطمت في غزة وشمالي فلسطين واليمن والعراق.
والدافع الثاني هو إدراك الدول الثلاث الضامنة أن ما بعد معركة "طوفان الأقصى" يتباين عمَّا قبلها، فهناك تبدل واضح في موازين القوى سيفرض نفسه على خرائط المنطقة الجيوسياسية، وإعادة ترتيب للأدوار الإقليمية. وسيفرض هذا التبدل على الولايات المتحدة مزيداً من الانكفاء في غربي آسيا، على نحو يتيح للقوى المناهضة لها فرصة ملء الفراغ، فجاء هذا الاجتماع استباقاً للمرحلة المقبلة، واستعداداً لتداعيات ما بعد وقف إطلاق النار، والذي لا يبدو أنه سيحدث قريباً.
الدافع الثالث إلى الاجتماع هو رسالة واضحة إلى الأميركيين بشأن تحديد مسؤوليتهم عن كل المواجهات التي تحدث في كل المناطق، من جراء احتلالهم مناطق سورية واسعة في الجزيرة السورية ومنطقة التنف، ونشر الفوضى في منطقة غربي آسيا، على نحو يمنع أي حل سياسي في سوريا وتحقيق الاستقرار فيها. وكانت الرسالة واضحة في البيان الختامي للاجتماع، وتأكيده ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا لتحقيق الاستقرار المنشود.
على الرغم من التوافق الواضح في بيان القوى الضامنة الثلاث، ومعها سوريا، فإن لغة البيان، كما في البيانات السابقة، فضفاضة وتخفي التناقضات في الرؤية السياسية لطبيعة القوى السياسية والعسكرية الموجودة في الأرض في شمالي غربي سوريا، وفي منطقة الجزيرة السورية. فتعريف الإرهاب، وما هي القوى الإرهابية، أمرٌ غير واضح بين الأطراف الثلاثة، منعاً للخلاف فيما بينها ومن أجل الإبقاء على مساحة مشتركة للقاء، بحيث يبقى وجود الاحتلال الأميركي وتهديداته المستمرة للأطراف الثلاثة هي القاسم المشترك فيما بينها.
يبرز التناقض بعد الاجتماعات في السياسات المتبعة لكل طرف من الأطراف، بحيث تتعاطى تركيا مع توصيف كلمة الإرهاب على نحو يخدم استراتيجيتها البعيدة في رؤيتها بشأن مستقبل سوريا، وتتعامل على أساس أن القوى الكردية هي "القوى الإرهابية" ويجب استئصالها من منطقة الجزيرة السورية، بينما تنظر إليها روسيا وإيران، ومعهما سوريا، كونها قوى انفصالية تعمل تحت مظلة الولايات المتحدة، وأن خروج قوات الاحتلال الأميركي سيُسقط هذا المشروع ويدفع القوى الكردية إلى إعادة رؤيتها السياسية، بما في ذلك اصطفافها، سياسياً وعسكرياً.
على النقيض من ذلك، فإن تركيا تَعُدّ الجماعات العسكرية والسياسية في شمالي غربي سوريا أنها قوى المعارضة الحقيقية، وتعول على إدخالها في العملية السياسية المقبلة، وفق تصورها، على نحو يحقق لها وجوداً دائماً في البنية السياسية السورية، ويجعل لها دوراً أساسياً في صناعة التوجهات المستقبلية لسوريا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على العكس من الدولتين الضامنتين الأُخرَيين، واللتين تَعُدانها قوى إرهابية تهدد الأمن القومي لهما، وعززت تفجيرات كرمان الأخيرة في إيران هذا الموقف نتيجة دور الجماعات الموجودة في إدلب في هذه التفجيرات وتعاونها مع "جيش العدل" المقيم بباكستان. وهي التفجيرات التي لا تنفصل عن المواجهات العسكرية بين محور المقاومة والنظام الغربي، ممثَّلاً بالولايات المتحدة و"إسرائيل".
يبقى مسار أستانا هو الأطول في الحرب السورية، وتوقف عن التأثير في هذه الحرب منذ اتفاق 5 آذار/ مارس 2020 بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس التركي إردوغان، والذي لم يُنفّذه حتى الآن، والذي يعكس، عبر عدم تنفيذه، تداخل ملفات التوافق والتناقض بين الدول الثلاث الضامنة للحل في سوريا، وهو مسار، في جوهره، لا يعدو عن كونه محاولة لبناء نظام إقليمي، انطلاقاً من الساحة السورية، يتم من خلاله إخراج الولايات المتحدة من منطقة غربي آسيا، على العكس من الأميركيين الذين يعملون على بناء نظام إقليمي يضمن بقاء "إسرائيل"، وأساسه يعتمد بصورة أساسية على "إسرائيل" والسعودية، ومعهما سائر الدول العربية، كما صرح بذلك ديڤيد إغناتيوس، نقلاً عن مسؤولين أميركيين.
إن نجاح "صيغة أستانا" في إخراج سوريا من محنتها المستدامة رهنٌ بمتغيرات ما بعد "طوفان الأقصى"، ولا يمكن أن يتحقق ببقاء قوات الاحتلال الأميركي في سوريا والعراق واستمرار الكيان "الإسرائيلي" في وضعيته الحالية، مع نظام عربي ما زال مراهناً حتى الآن على استمرار قوة النظام العالمي الغربي المهيمن، والأمر يحتاج إلى إقراره بالهزيمة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، وهو أمر لا يتحمله، على رغم تسريبه إمكان خروج القوات الأميركية من سوريا والعراق.
قد يكون من السابق لأوانه التنبؤ بالمسارات المقبلة في المنطقة بعد الزلزال الكبير الذي أحدثته عملية "طوفان الأقصى"، والتي لم تتوقف تداعياتها، وخصوصاً بعد بروز دور محور المقاومة كونه الرقم الأصعب في هذه المرحلة نتيجة مراكمة مكتسباته الاستراتيجية، ويمنحه خطوات متقدمة في الصراع، إقليمياً ودولياً، وسيترجم في الأعوام المقبلة في الساحة السورية مثل سائر الساحات، شرط التأهيل السوري الداخلي للمرحلة المقبلة وتلقف فرصها الممكنة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة