طوفان الأقصى.. موقف القوى الكردية المتباين
رغم ضخامة حدث "طوفان الأقصى" الذي هزَّ العالم على مستوى الدول والقوى السياسية والشعبية عالمياً، وخصوصاً ضمن دول النظام الغربي التي من المفترض ألا يحدث فيها أي ارتدادات متفاعلة إيجابياً، فإن مواقف القوى الكردية بشكل عام كانت متباينة بشكل كبير، وخصوصاً الأوجلانيين، مع غياب موقف متقدم وموحد تجاه القضية الفلسطينية التي عادت إلى مستوى القضية المركزية عالمياً، وليس عربياً وإسلامياً فقط، كمظهر للصراع على بنية النظام الدولي.
سيطر الارتباك والترقب في الأيام الأولى على الموقف العام للقوى الكردية الأوجلانية في سوريا والعراق وتركيا تبعاً للمعطيات الأولية المتداولة، وخصوصاً أن من بادر إلى معركة "طوفان الأقصى" هو حركة "حماس" ذات الطبيعة الإسلامية الجهادية، وكان الموقف الأولي أقرب إلى تبني الرواية الإسرائيلية، وخصوصاً ما يتعلق بمقتل "مدنيين إسرائيليين"، رغم ما تم كشفه فيما بعد من فضيحة قتل الحاضرين في الحفل الموسيقي، وملاحقة السيارات الهاربة وتدميرها، بمسؤولية الطيران المروحي الإسرائيلي.
تمايز الأوجلانيون السوريون عن شركائهم في العراق وتركيا باعتبارهم حركة حماس جزءاً من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي يخدم السياسات التركية في شمال سوريا، واتهامها بالمساهمة في تضييع عفرين وتهجير أهلها بوقوفها مع سياسات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كما يتداولون سردية متعلقة بنيات نقل الفلسطينيين إلى عفرين وتوطينهم فيها كبديل من الكرد الذين تم اقتلاعهم من أرضهم وموطنهم التاريخي، ما جعلهم يتعاطون مع الحدث الغزِّي بلامبالاة إعلامية وسياسية وشعبية.
كان الأوجلانيون في تركيا أكثر تقدماً عبر موقفين واضحين؛ الأول تجلى في كلمة الرئيسة المشتركة لحزب المساواة الديمقراطية للشعوب، حزب الشعوب الديمقراطي سابقاً، تولاي ختيم أوغلو، والآخر ببيان رسمي صادر عن الحزب ذاته إبان مجزرة مشفى المعمداني.
وفي كلا الموقفين سُميت الأمور بمسمياتها، ففيهما إدانة واضحة للاحتلال الصهيوني وتحميله مسؤوليتها من دون مواربة، واعتُبر أن ما قام به الكيان من مجازر ينطبق عليه وصف "جرائم الحرب"، فيما لم يصدر عن الأوجلانيين السوريين أي تصريح متقدم يعبر عن مواقفهم تجاه الجرائم المروعة، وجلّ ما قاموا به هو إصدار بيانات خجولة لا تعبر عن موقفهم الجذري السابق تجاه ما يعتبرونه "الحداثة الرأسمالية" المسؤولة الأولى عن تمزيق المنطقة واختطاف القائد الرمزي للكرد عبد الله أوجلان.
وقد سبق ذلك موقف واضح للشخصية الأولى في جبال قنديل الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الديمقراطي الكردستاني جميل باييك بعد أسبوعين من بدء عملية طوفان الأقصى، والذي دعا فيه إلى وقف الإبادة الجماعية في غزة، معتبراً أن "إسرائيل" من الدول المهيمنة، مثلها مثل الولايات المتحدة ودول حلف الناتو، وأن حل القضيتين الفلسطينية والكردية أساس لاستقرار الشرق الأوسط.
وبينما كان بيان مجلس سوريا الديمقراطي بعيداً كل البعد عن رفاقه في تركيا والعراق، وأقرب إلى بيان خجول، ابتعد عن تسمية الأمور بأسمائها وبقي ضبابياً ومختزلاً بما لا يدع مجالاً للشك في أن ردود الأفعال السياسية على الحدث الفلسطيني انطلقت من حسابات سياسية خاصة، بحيث لا تُغضب الأطراف الغربية من جهة، وتعبّر عن هواجس ما يحصل لعفرين من جهة ثانية، رغم أنه لا يمكن اختزال فلسطين بحماس، كما أن الموقف الثوري المنسجم مع تاريخهم يقتضي موقفاً واضحاً تجاه جرائم الحرب التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، والتفاعل سياسياً وشعبياً مع الاهتمام إعلامياً بها، وربطها بجرائم الاحتلال التركي لمناطق واسعة من شمال سوريا.
تعد القضية الكردية إحدى أهم القضايا في منطقة غرب آسيا، فالكرد هم أحد أركانها الأربعة الأساسيين فيها بالشراكة مع العرب والترك والفرس الذين تبادلوا الأدوار الحضارية في مركز العالم القديم. وقد ظُلموا مرتين: الأولى ظلم مشترك مع شعوب هذا المشرق كافة بعدما تم تحطيمه خلافاً للسياق التاريخي العام منذ 5 آلاف عام رغماً عن أبنائه، والآخر عندما تم تمزيقهم بين سوريا والعراق وإيران وتركيا لأهداف خبيثة للبريطانيين، بما يجعل الأطراف الأربعة بؤرة حضارية مشتركة في قلب العالم القديم.
تأتي قضية الكرد ضمن الإطار الإقليمي على عكس القضية الفلسطينية التي أظهرت بعدها العالمي من جديد إثر معركة "طوفان الأقصى"، إن كان بحجم الاصطفاف الغربي الكامل مع الكيان الصهيوني، وإرسال أكبر عدد من القطع البحرية إلى شرق المتوسط لحماية الكيان، أم بتغطية الغرب لجرائم الحرب المستمرة في غزة، في مقابل استقطاب عالمي لكل القوى الدولية والشعبية التي ترى في فلسطين مفصلاً أساسياً في عملية قضم هيمنة النظام الغربي المستمرة على العالم، وتعتبر ما حصل في غزة بمنزلة أهم معركة فاصلة في تاريخ البشرية المعاصر.
لا يخدم الموقف الخجول الذي اختفى بعد البيان منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي القضية الكردية، وخصوصاً وفق السياق الذي طرحه عبد الله أوجلان في رؤيته للسلام والاستقرار والتنمية في هذا المشرق استناداً إلى نظريته حول الأمة الديمقراطية التي تعتبر من أهم الأطروحات الباحثة عن حلول مستدامة لما يعتبره مركز العالم أو بؤرته، وهي المنطقة غير القابلة للتقسيم جغرافياً، فغياب الموقف يضع كرد سوريا في مسار مختلف للمزاج العام السائد في العالم، وليس في المنطقة فقط، ويدفع إلى طرح تساؤلات حول دوافع الموقف بما لا ينسجم مع تاريخهم مع القضية المركزية منذ أن انطلق سوريون كرد من عفرين إلى فلسطين للدفاع عنها عام 1948، وسقط منهم شهداء فيها، انتهاءً بشهدائهم الثلاثة عشر في قلعة الشقيف خلال مواجهتهم الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 مع إخوانهم المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة