"طوفان الأقصى"… تركيا التي حسمت خيارها
أُثيرت التساؤلات حول التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية التركي حقان فيدان حول استحالة التطبيع مع دمشق، كونها لا تملك قرارها وحلفاؤها الروس والإيرانيون يؤثّرون عليها، بالرغم من التجربة السابقة التي رفض فيها الرئيس السوري بشار الأسد لقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل الانتخابات التركية الأخيرة، رغم الإلحاح الروسي الإيراني لحصول اللقاء في إطار دعمهم للرئيس التركي للفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
ما إن انطلقت عملية "طوفان الأقصى" حتى أدانها الرئيس التركي، وأتبعها بإخراج قيادات من حركة حماس من تركيا بحجة المحافظة على أمنهم، بالرغم من أن تركيا تشكّل الدولة الأكثر أماناً لهم، بحكم العلاقات التركية "الإسرائيلية" التي تدفع بصاحب القرار "الإسرائيلي" للتفكير مراراً قبل اتخاذه قرار اغتيالهم، حرصاً على استمرار العلاقة مع تركيا التي تشكّل ضرورة ماسة لكلّ النظام الغربي.
على الرغم من المظاهرات الكبرى المندّدة بـ "إسرائيل" في تركيا وارتفاع لهجة التهديدات التركية، فإن واقع تصاعد المبادلات التجارية مع الكيان الذي تصدّرت فيه تركيا قائمة أكثر الدول إمداداً له بالخضروات، عدا عن الإسمنت والأسلاك الشائكة التي استخدمت في القدس إضافة إلى سلع مختلفة، بما في ذلك الإسمنت المستخدم في بناء المستوطنات، فإن مرحلة اللعب على التوازنات بين تركيا والشرق في طريقها للنهاية.
الرهان على إمكانية استقطاب روسيا وإيران لتركيا والدفع بها للشراكة معهما في بناء إقليمي ودولي لم يكن في مكانه، على الرغم من محاولة الانقلاب العسكري الذي خططت له الاستخبارات الأميركية وموّلته الإمارات العربية المتحدة والسعودية لعدة اعتبارات.
الأول كون تركيا أهم جزء في حلف "الناتو" بعد الولايات المتحدة مذ أن انضمت إليه عام 1952، كما أن أهميتها الجيوسياسية تدفع بدول النظام الغربي للتمسك الشديد بها في إطار صراعها مع ما تعتبره تهديدات دولية لها من قبل روسيا والصين وإيران، فامتدادها الإثني في الدول الثلاث يتيح لها إمكانية العبث بالأمن القومي لها.
الثاني مرتبط بخيارات تركيا الداخلية فالصراع السياسي الداخلي هو بالأساس بين قوى تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قدراً لابدَّ منه، وغالبية القوى السياسية الكبرى تخوض صراعاتها السياسية تحت المظلة الأميركية مع شيء من الاستقلالية، وهي ترى في الولايات المتحدة ضماناً لها في مواجهة روسيا التي خاضت معها ثلاثة عشر حرباً قبل عام 1917.
الثالث هو دور عملية "طوفان الأقصى" التي كانت بمثابة زلزال مركزه في غزة وارتداداته شملت العالم بأكمله، وأدى لاندلاع حرب إبادة غزة وتجويعها وتهجيرها كرمى لمآرب أميركية صهيونية، لكن صمود أهل غزة الأسطوري واستمرار مقاومتها بزخم عالمي، دفع بالإدارة الأميركية لحسم خياراتها في تركيا والاعتماد على الرجل الأقوى فيها من خلال الانتخابات التي واجه فيها خصومه مجتمعين، استباقاً لنتائج العملية التي ترتسم فيها معالم جديدة للمنطقة تقتضي تغيير الأدوار والخرائط الجيوسياسية.
عملت الولايات المتحددة على مسارين لاحتواء الكارثة "الإسرائيلية"، كان الأول هو محاولات التفاهم مع إيران وتقديم مجموعة من الإغراءات، من خلال المفاوضات التي تمت في عُمان ويمكنها أن تستمر بما يؤمّن هدنة دائمة تحمي الكيان من الانهيار الذاتي، والثاني هو الاعتماد من جديد على الرجل الأقوى في تركيا وتعيينه من جديد، وهو الذي يعيش ضائقة اقتصادية متنامية، فهو بما يمتلك من مزايا يستطيع أن يؤدّي دوراً خطيراً لمصلحته في شمال سوريا وشمال العراق وفي منطقة القوقاز.
يشكّل شمال العراق وسوريا الموقعين الأكثر أهمية في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة روسيا وإيران، ومن هنا تأتي أهمية زيارة وزير الخارجية التركي حقان ڤيدان وهو الأمني الأول السابق ومعه رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن إلى واشنطن، والبيان المشترك الذي صدر في إثر الزيارة الذي يؤكد أن حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، بما يشكّل مبرّراً لاحتلال المزيد من المناطق في شمال البلدين بعمق 40 كم.
استتبعت زيارة الاتفاق الأميركي التركي المضمر بزيارة المسؤولين السابقين إلى بغداد ومعهما وزير الدفاع ياشار غولر ونائب وزير الداخلية التركي منير قارال أوغلو، وهو أرفع وفد أمني عسكري تركي واضح الدلالة بمهمته الأمنية العسكرية والخالي من الفعل السياسي رغم وجود وزير خارجية من خلفية أمنية.
هذا التحرّك التركي المستجد بتهديداته لا يخرج عن تصريح الرئيس التركي في 4 آذار/مارس بوعده بالقضاء على حزب العمال الكردستاني خلال أشهر الصيف المقبل، وهو الوجه الآخر للاستراتيجية الأميركية التي قد تدفع بها للانسحاب من العراق وسوريا وحلول الجيش التركي مكان القوات الأميركية، بما يمنع روسيا وإيران من ملء الفراغ، إضافة إلى منع سوريا من الاتحاد من جديد.
الاستدارة التركية لم تبدأ مع معركة "طوفان الأقصى" بل بدأت مع الحرب في أوكرانيا والخشية من سيطرة روسيا على مدينة أوديسا، وما يعني ذلك من السيطرة على القسم الأكبر من البحر الأسود، وارتفاع مستوى التهديدات الروسية بازدياد قدرتها على تحدي الغرب الذي تنتمي إليه تركيا، ولكنها استدارة بطيئة.
كانت معركة "طوفان الأقصى" هي الفيصل بالاستدارة التركية السريعة وحسم خيارها في المعسكر الغربي، استباقاً لنتائج الحرب الأطول لـ "إسرائيل" في تاريخ نشوئها، فالجناح العسكري لحركة حماس وبقية قوى المقاومة الفلسطينية ليست سوى جزء أساسي من محور المقاومة الذي استطاع أن يثبت معادلة جديدة في منطقة غرب آسيا باعتباره صاحب الدور الأكبر فيها، والقادر على فرض شروطه السياسية والعسكرية في سياق صراعه المديد مع النظام الغربي، وهذا ما جعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لاڤروڤ يصرّح باستحالة التطبيع بين سوريا وتركيا بفعل ما يجري في غزة.
يبدو أننا أمام مرحلة جديدة من الصراع رغم ما يثار عن إمكانية التوصل لتسوية استقرار في منطقة غرب آسيا هي أشبه بالهدنة الطويلة، وهذا الصراع عماده الأساس الطموحات التركية التاريخية التي تصب في خانة استمرار الوجود الأميركي عبر الوسيط التركي، الذي لم يدرك بعد أنه يستطيع أن يكون جزئاً أساسياً في منطقة غرب آسيا، ويصرّ على المزيد من السياسات التي سيدفع ثمنها العراق وسوريا بشكل عام والكرد بشكل خاص، وفي الوقت نفسه سيكون الثمن تركياً أيضاً، فالقوى الأُخرى لا تستطيع أن تتحمّل وجوداً غربياً بعنوان شرقيّ.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة