بكين وصلت إلى دمشق.. ماذا بعد؟
تعاطى السوريون مع قدوم وزير الخارجية الصيني في يوم القسم الرئاسي إلى سوريا، والذي حمل دلالات رمزية عميقة، بمشاعر متباينة بين التفاؤل والتشاؤم، وخصوصاً أن الوضع الاقتصادي ضاغط بشدة على القاعدة الأكبر منهم، التي تجاوزت 90% من مجموع السكان، فأي مسارات ستسلكها العلاقات بين البلدين؟ وما انعكاسها على الوضع السوري الداخلي والخارجي؟
لا يعدّ اهتمام قادة بكين بسوريا وليد اللحظة، ولكنه يمتد إلى نهايات الألفية الثانية، مع صعود الصين التي بدأت نهضتها الحقيقية في العام 1978، مع مجيء دينغ هسياو بينغ. وكان من المفترض أن تحصل قفزة كبيرة في العلاقة بين البلدين بعد زيارة الرئيس الأسد لبكين في العام 2004، ولكن المشاريع الاقتصادية التي كان من المفترض أن تقوم بها الأخيرة في مدينة عدرا العمالية تم إيقافها لأسباب غير معروفة.
مع مجيء تشي جينبينغ في العام 2013 إلى موقع الرئاسة في الصين، تم الإعلان عن مبادرة "الحزام والطريق" التي قُدّرت كلفتها بحدود 4 ترليون دولار. وكان اللافت للنظر هو استبعاد سوريا والعراق من المشروع، واعتبار شمال غرب إيران وجنوب شرق تركيا الممرَّ البري نحو أوروبا، واعتبار مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة المعتمد في شرق البحر الأبيض المتوسط.
أخذت السياسات الصينية تُظهر نفسها على المستوى السياسي بعد إدراك قادة بكين أن القدرات الاقتصادية الهائلة التي أتاحت لهم بناء قدرة عسكرية دفاعية، تتيح لهم ترجمة ذلك، لتحويل الصين إلى قطب دولي موازٍ للقطب الأميركي الأوحد، ما دفع الرئيس جينبينغ إلى الإعلان عن اعتباره أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، ولا عودة عن ذلك، وذلك من منبر الأمم المتحدة في العام 2015.
ارتفعت نبرة التحدي الصيني بعد مجيء الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة بايدن، واعتبارها كلاً من الصين وروسيا تهديدين استراتيجيين للولايات المتحدة، ما دفع الرئيس الصيني إلى الإعلان عن أنَّ "زمن التنمّر على الصين ولَّى بلا رجعة".
كما أحدث الانسحاب الأميركي غير المشروط من أفغانستان، وتركه الفوضى والاضطرابات من خلال سيطرة حركة "طالبان"، قلقاً لدى دول الجوار، ما دفع 40 دولة إلى عقد مؤتمر آسيا الوسطى والجنوبية في مدينة طشقند في أوزباكستان بتاريخ 15 تموز/يوليو الماضي، بعنوان لافت للنظر هو "الترابط الإقليمي، تحديات وفرص".
وكان من الواضح من خلال طبيعة تحركات وزير الخارجية الصيني أنَّ القرار اتخذ بضرورة تأمين منطقة غرب آسيا، التي تشمل المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يقتضي بطبيعة الحال إخراج سوريا من منطقة الصراعات الدولية والإقليمية، فالتقى القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري، ممثّلة بكل من وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف والمملكة العربية السعودية سعود الفرحان في اليوم الأول. وفِي اليوم الثاني، التقى وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو قبل التوجّه إلى دمشق.
كان واضحاً الحرص الصيني على الوصول إلى دمشق في تاريخ القسم الرئاسي نفسه، للدلالة على الدعم الكبير لها، وعلى أنّ بقاء الرئيس الأسد في سدة الحكم لم يكن سوى مظهر لنتائج الصراع الدولي والإقليمي وتحولاته الكبرى، وتأكيداً على دور الصين في المرحلة القادمة في تأمين الجغرافيا السورية كمنطقة آمنة، بالتعاون والتنسيق بشكل أساسي مع موسكو وطهران، وإشراك المملكة العربية السعودية التي تعتبر قاطرة دول الخليج، إضافة إلى مصر التي زارها في اليوم التالي، والتقى فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومعالجة الدور التركي السلبي الذي لم يفِ بتعهداته لبكين بتسليم القيادات الإرهابية التركستانية، رغم الدعم الاقتصادي الصيني لها.
وكان لاتصال وزير الخارجية وانغ يي بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في اليوم الذي زار فيه دمشق دلالة كبيرة، وخصوصاً أن بيان وزارة الخارجية الصيني أعلن عن استعداد الصين للعمل مع إيران على مواجهة السياسات الأحادية والهيمنة، وهو ما يعني بالضرورة التوافق مع استراتيجيتها بإخراج الأميركيين من غرب آسيا بأكملها، وخصوصاً سوريا والعراق، ما يمهّد الطريق لدخول مبادرة "الحزام والطريق" إلى كل من العراق وسوريا ولبنان.
حملت الزيارة الصينية إلى دمشق 3 أبعاد، فقد تم فيها دعوة دمشق إلى الدخول في مشروعها الكبير، أسوةً ببقية الدول التي وافقت عليه، وبدأ العمل فيها على البنى التحتية الضرورية.
وللتأكيد على ذلك، وقعت على اتفاقيات الاستثمار في كل مدينة عدرا الصناعية واللاذقية، وعلى إنشاء خط بري من الشمال إلى الجنوب، يربط دول الخليج العربي وشمال أفريقيا بتركيا وأوروبا، وبناء خط لسكك الحديد يربط مرفأ طرطوس بالعراق وإيران وباكستان والصين، إضافةً إلى الاستثمار في قطاع النفط والغاز، والجانب الآخر يتعلق بالمساعدات التي يمكن أن تقدمها إلى سوريا.
وقد توج ذلك بمبادرة للحل السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة، مع الدعم الكبير لتصورات دمشق في أكثر القضايا، وخصوصاً ما يتعلق بالإدارة الذاتية والاحتلال التركي، عندما لمّحت المبادرة إلى "رفض جميع المخططات المحفزة على الانقسامات العرقية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب"، إضافةً إلى شرط أساسي: "ينبغي دعم حل سياسي شامل وتصالحي للقضية السورية" بقيادة السوريين.
من الواضح أنَّ المساهمة الصينية في مساعدة سوريا اقتصادياً وسياسياً مرتبطة بتحقيق متطلبات أساسية، تتعلق بتغيير بيئة العمل الاقتصادي وتغيير التشريعات الاقتصادية، وهو ما تعهّد به الرئيس الأسد في خطاب القسم، عندما أكّد أن العمل في المرحلة القادمة سيكون على مكافحة الفساد وإصدار تشريعات اقتصادية جديدة.
أما الحلّ السياسي، فقد يذهب نحو مسار تشكيل منصّة للمعارضة السورية الداخلية بعنوان منصة دمشق، تكون مهمّتها الأساس إيجاد أرضية للحوار والتفاوض بين الطرفين في دمشق، وليس جنيف، وإنهاء دور المنصات التي تشكل امتدادات دولية وإقليمية.
بعد أن اختارت دمشق قرار التوجّه شرقاً، تطلَّب منها ذلك الشروع في تحقيق المتطلبات الثلاثة الآنفة الذكر، وهو ما ينتظره أغلب السوريين الذين طحنتهم الحرب، والذين يبحثون عن مخرج لاسترداد حياتهم السابقة واستعادة المناطق المحتلة في الشمال السوري وجنوبه، والبدء بإعادة إعمار ما تهدم على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، والّذي تعجز عنه الدولة السورية وحدها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً