ممرّ داوود وسهم الباشان أم لعنة العقد الثامن؟
يأتي مشروع داوود ليشكّل ضغطاً كبيراً على العراق ثم تركيا، فيكون الجميع في مرمى النيران بما فيها تركيا التي كانت تناور وتحاور وترى في نفسها القوة الكبيرة البعيدة عن حمم البركان الإسرائيلي.
انشغل أهل الرأي في الشارع الإسرائيلي منذ الثورة على القضاء حتى طوفان الأقصى، بهاجس لعنة العقد الثامن، والذي يعني فرضيّة زوال "إسرائيل" وفق المنظور التوراتي والتاريخي، باعتبار سقوط كلّ الدول اليهودية السابقة مع قرب بلوغها الثمانين سنة، وهي في الأساس نبوءة في العهد القديم، ولكن فجأة دخلنا جميعاً في حقبة ممرّ داوود، وقد كثر الحديث حوله خاصة بعد أن ظهر رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي على منبر الأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، مسلّحاً بالخرائط التي تشير إلى الشرق الأوسط الجديد، وطريق "إسرائيل" البري العابر للحدود.
نتنياهو نفسه الذي يلمّح لممرّ داوود الإسرائيلي في عمق الإقليم العربي المجاور، هو نفسه نتنياهو الذي صرّح قبل سبع سنوات؛ أنّ بقاءه رئيساً للحكومة هو الضمان الوحيد لاستمرارية "إسرائيل" بعد عقدها الثامن وما يزيد على قرن، على خلاف الحال مع ممالك "إسرائيل" التاريخية السابقة، فما الذي تغيّر في السياسة الإسرائيلية؟ وكيف أنتج العقل الإسرائيلي الديني والسياسي هكذا نمط تفكير نحو هكذا طموح؟
وكان نتنياهو قد افتتح الإشارة للعنة العقد الثامن وأنّه المؤهّل دون غيره لتجاوز هواجسها وواقعها، ثم جاءت كلمة نفتالي بينيت رئيس وزراء "إسرائيل" السابق، في حملته الانتخابية لعام 2020، والتي ردّد فيها المشاعر نفسها وحثّ الناخبين اليهود على الوقوف خلف الائتلاف الذي يقوده، من أجل التغلّب على لعنة العقد الثامن، وفي عام 2022، أعرب الزعيم الإسرائيلي الأسبق أيهود باراك عن المخاوف نفسها من قرب زوال "إسرائيل" قبل حلول الذكرى الـ80 لقيامها، لأنه على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمّر لليهود "دولة" أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفكّكها في العقد الثامن، بحسب ما أوضح باراك أكثر من مرّة.
كثر الحديث عن ممرّ داوود بعد سقوط النظام السوري، والاجتياح الإسرائيلي الواسع للأراضي السورية من جبل الشيخ حتى ضفاف أرياف دمشق والخط الواصل مع بيروت والسويداء، وقد اختار الإسرائيلي لهذا الاجتياح المدعوم بقوة النار الإسرائيلية الجوية مسمّى توراتي (سهم الباشان). يقال في التوراة إن ملك باشان كان اسمه "عوج"، وأصله من الرفائيين العماليق الكنعانيين، وهم شعوب سامية قديمة استوطنت في المنطقة منذ القرن الـ12 قبل الميلاد، يأتي هذا التطوّر بعد أكثر من عام على تصريح الناطق باسم كتائب القسّام أبو عبيدة أنّ زمن انكسار الصهيونية قد بدأ، ولعنة العقد الثامن ستحلّ عليهم وليرجعوا إلى توراتهم وتلمودهم ليقرأوا ذلك جيداً، ولينتظروا أوان ذلتهم بفارغ الصبر.
بين فكرتين توراتيّتين متعاكستين يرزح الشعب الفلسطيني ومعه اللبناني والسوري وكلّ شعوب منطقتنا، ففي الوقت الذي ما زال الإسرائيلي عاجزاً عن تحقيق أهداف حربه، يعلن أنه هزم المقاومة ومحورها، وأنّ وقوف نتنياهو على جبل الشيخ تعبير رمزي عن مستوى الغطرسة الذي يعيشه، خاصة وهو يعلن أن "جيشه" سيمكث في سوريا طوال الوقت الذي يلزم، ملمّحاً لعام كامل وليس فقط فصل الشتاء.
سوريا ظلت طوال الوقت حاضنة النبوءات الافتراضية بشأن مستقبل "إسرائيل"، بين حكايا كتاب الجفر وهي تخلط بين الغيب الديني والسياق التاريخي، يأتي الشاهد الواقعي بحقيقة وجود كيان يهودي، ليعزّز أسطورة ملحمة مقبلة من عمق الغيب في حلب أو في الغوطة، وهنا في هذا التوقيت الراهن ظهرت قصة ممّر داوود في تلبّسها التوراتي مع طريق عبر الفرات.
تشتبك لعنة العقد الثامن في زمن الطوفان، مع مفرق الطرق الإسرائيلي نحو قيام "إسرائيل" الثانية أو لعلها "إسرائيل" الكبرى، عبر ممر يرمز فيه الإسرائيلي لنبي الله داوود عليه السلام، وثمة أقليات قومية وطائفية يمكن الشراكة معها للعبور حتى الفرات، أو هكذا يخطّط الإسرائيلي ويحلم وهو في أوج غطرسته، وسوريا بعمقها الجغرافي والتاريخي والاستراتيجي باتت بعد خمسين عاماً مسرحاً لا قيد فيه على الإسرائيلي ولا حتى اعتراض.
يشطح الإسرائيلي في زهوه وهو يشاهد دمشق الفيحاء أسفل جبل الشيخ الذي امتطاه بساعات، نحو طموح ممرّ داوود من مرتفعات الجولان حتى نهر الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط، مروراً بدرعا والسويداء والرقة ودير الزور والبو كمال والتنف، يربط "إسرائيل" بالفرات ليطوّق الحدود العراقية، ويكون منفذاً برياً لـ "إسرائيل"، يفضّ عزلتها وحصارها ويزيد من الحركة التجارية، وتقام فيه مشروعات للطاقة، إلى جانب المشروعات السياحية، ويعزّز من قوة "إسرائيل" العسكرية ويوسّع من دورها الإقليمي.
يأتي مشروع داوود ليشكّل ضغطاً كبيراً على العراق ثم تركيا، فيكون الجميع في مرمى النيران بما فيها تركيا التي كانت تناور وتحاور وترى في نفسها القوة الكبيرة البعيدة عن حمم البركان الإسرائيلي، فإذا بها وهي في غمرة إنجازها الاستراتيجي في سوريا يحفّ أمنها القومي خطر الشهية الإسرائيلية التي لا يحدّها إلا غضب المقاوم، وثمّة محور يتمدّد خارج الفكر المقاوم وربما على حسابه.
يجاهر الإسرائيلي بخططه التوسّعية، ويسندها طوال الوقت بالخلفيّة الدينية التاريخية، فيما أكثر العرب والمسلمين يختبئون خلف حطام الواقع السياسي، ليعبر الإسرائيلي مسلّحاً بقوة التاريخ، وقد أخرجه من قمقم الأسطورة الكاذبة، وأحاله حقائق عبر المطامع، فهل يجتاز عبر غطرسته ووحشيّته عقدة الثمانين ليعبر قنطرة الزمن في ضيافة الملك داوود؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً