تهديدات ترامب والفرصة السانحة للمقاومة، كيف ذلك؟
فهم نتنياهو مضمون تحذير ترامب للمقاومة في غزة، بفتح الجحيم على الشرق الأوسط، إن لم يتم حل قضية الأسرى في غزة قبل دخوله البيت الأبيض، وقد بادر إلى تفسير تحذير ترامب بأنه يقصد حركة حماس حصراً باعتبارها عقدة القضية، والتحذير بالفعل موجّه إلى الآسرين وداعميهم، ولكنه في الواقع تحذير للجميع، وخصوصاً لمن يعيق حل هذه المشكلة.
جحيم يطال الشرق الأوسط، والكيان الإسرائيلي مكوّن من مكوّنات هذا الشرق الأوسط، وإن بحكم الواقع المفتعل، فالجحيم عندما يطال غزة لن يقتصر عليها فحسب، بل سينعكس على هذا الكيان تلقائياً، ما يعني أن قضية الأسرى الإسرائيليين مشكلة الشرق الأوسط كله وليس فقط مشكلة الآسرين في غزة، وهي رسالة الرئيس الأميركي المنتخب والداعم الأول لـ"إسرائيل"، لأنه يريد أن ينشغل بإعادة ترتيب البيت الأميركي، إذ إن هناك ملفات داخلية ملحّة تتعلق بتصفية الحسابات والمحاكم والشركات التجارية والحدود، وخارجياً هناك الهاجس الصيني الذي يقض مضجع ترامب ويحلم به ليل نهار وهو يجده يراكم انتصاراته الاقتصادية عبر الفضاء العالمي.
يريد ترامب الوفاء بتعهداته الانتخابية، بأن يدخل البيت الأبيض وقد وضع حداً للحروب في لبنان وغزة وأوكرانيا حتى يتفرغ لما ينسجم مع مزاجه النفسي. خمسون يوماً تكفي برأي ترامب للخروج بصفقة تنهي ملف الأسرى الإسرائيليين وبينهم أميركيون مزدوجو الجنسية، وهو وحده المؤهل ليملي على نتنياهو، وكان الأخير يعتقد طوال الوقت أنه يملك شرعية وقوة أكثر من بايدن، لكنه بين يدي صديقه ترامب المتحفز لتغيير العالم ينتظر منه دعماً مطلقاً، يجد نفسه مقيّداً بسقف زمني وواقع لا بدّ من تغييره ضمن هذا السقف.
والدعم الذي يتمناه نتنياهو هنا؛ يبقى ضمن سقف سياسي وعسكري، حتى مع توفير كل ما يلزم لـ"إسرائيل" لإكمال مهمتها، والمهمة الإسرائيلية في غزة استهلكت على نار صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، كما مقاومة لبنان التي وضعت الحرب معها أوزارها، وإن على حذر، وقد فتحت نافذة يمكن البناء عليها لوقف الحرب على غزة، بغض النظر عن المصطلح الذي يريده نتنياهو ويسعى لتسويقه مع لبنان وغداً مع غزة، باعتباره وقفاً لإطلاق النار وليس وقفاً للحرب، فالوقائع على الأرض هي المعيار، وهي مع لبنان من دون وقف النار بالتأكيد في ظل عشرات الجرائم والخروقات الإسرائيلية المتوالية تباعاً حتى الآن.
تحذير إرهابي متغطرس، يعكس طبيعة عقلية ترامب، وهو يتجاوز حدود الأدب الدبلوماسي، ويعكس غطرسة ليس لها رصيد، فالرصيد الإسرائيلي- الأميركي الوحشي أُفرغ في صدور أطفال غزة ونسائها ورجالها، وقضى جيل قيادي كامل من مقاومتها، وهو ذاته مع المساند اللبناني، ليظهر تهديد غزة ومقاومتها فرصة أكثر منه خطراً على الآسرين، خصوصاً أن ترامب اكتشف فجأة أن كثيراً من الأسرى ما زالوا على قيد الحياة، وكان يظنهم جميعاً ماتوا بالقنابل الأميركية التي تم تفجيرها في كل متر من أرض غزة وحياتها.
يأتي تحذير ترامب ربما ليضع عقارب الساعة الرملية على نبض حقائق الواقع، الذي بات يدركه الشارع الإسرائيلي وقد ملّ حروب نتنياهو العبثية وفق طموحاته الشخصية، على حساب حياة الأسرى وقد قتل منهم 33 أسيراً بالقصف الإسرائيلي، وعلى حساب تأزم كل مناحي الحياة في "إسرائيل"، وما كان يتم تداوله في الكواليس الإسرائيلية، أصبح على الطاولة وفي المنابر كافة، حتى بن غفير وسموتريتش تجاوز عواؤهما هذا الواقع بتعقيداته، فمخيم جباليا يقاتل ضد التطهير وباطن بيت لاهيا وبيت حانون يخرج ليتنسم العليل الغزاوي، وهو يفكك حلم المنطقة العازلة بكمائن لا تنتهي.
يأتي تحذير ترامب على وقع التطورات في لبنان، والأفق النفسي الذي أرخاه في الواقع الإسرائيلي، فالهدنة الهشة مع لبنان أعادت الحياة إلى قلب الكيان في غوش دان، وهنا يتساءل كل إسرائيلي؛ لماذا لا يكون ذلك مع غزة لأجل الأسرى الإسرائيليين ولأجل حياة جنودنا الذين يقتلون كل يوم في جباليا؟ جاء تحذير ترامب ليدعم شرعية هذا السؤال.
ومهما حاول نتنياهو أن يجعل التحذير الأميركي حصراً في جعبة غزة ومقاومتها، وهو بالفعل موجّه من ترامب لغزة ومقاومتها، ولكن الشرق الأوسط كله من سيدفع الثمن، هذا أولاً، أما ثانياً فطبيعة الأزمة في قضية الأسرى تبقى في رقبة "إسرائيل"، فهناك ثمن يتوجب دفعه، وهو ثمن بات يتقبله المزاج الإسرائيلي العام، بعد أكثر من عام على هذه الحرب الدموية التي صار فيها رئيس الحكومة مطلوباً للعدالة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهو التطهير الذي بات يعترف به إسرائيليون مثل رئيس "الجيش" الإسرائيلي السابق موشي يعلون جهاراً نهاراً، وقد صدم في كلامه المجتمع الإسرائيلي صدمة مدوية.
سقف زمني ملزم لـ"إسرائيل" أكثر منه للمقاومة، لماذا؟
تطالب المقاومة بوقف الحرب لإتمام صفقة الأسرى، وهنا يظهر ترامب المطالب بوقف هذه الحرب صراحة وقد اكتملت المهمة الإسرائيلية، وهي بوجهة نظر ترامب القتل والخراب وتحرير الأسرى، وهذا التحرير مشروط بوقف الحرب، وهنا يجد نتنياهو نفسه في مشكلة حقيقية وهو سبب الأزمة باعتباره العنصر الفاعل الرئيس في تغذية هذه الحرب، مقابل تصريحات واضحة لا حصر لها صدرت وما زالت تصدر، عن معظم قادة المؤسسة العسكرية والأمنية في "إسرائيل"، وهي تحمّل نتنياهو المسؤولية المباشرة عن إعاقة كل المبادرات الدولية السابقة لوقف الحرب وإعادة الأسرى الإسرائيليين.
وإذ تجاوزت المقاومة بعض الجوانب وتخلت عن حكم غزة، فهناك الآن في غزة لجنة إسناد مجتمعية تم تشكيلها لإدارة غزة، وهي مقبولة من كل القوى الفلسطينية ومن ضمنها حماس، وهي ليست محسوبة على أي تنظيم ولكنها تدار من قبل حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله، ما يوفر لها الغطاء السياسي الدولي والإقليمي والمحلي.
لم يبق في جعبة الشر الأميركي والإسرائيلي شيئاً لم يتم إفراغه في غزة، وما تبقى فقط بضعة أسابيع، ليجد نتنياهو نفسه محشوراً في زاوية ضغوط من نوع جديد وقد أخذت تتكالب عليه، داخلياً بعد توقيع الاتفاق مع لبنان خصوصاً، وخارجياً أمام استحقاق التغيرات الإقليمية والعالمية التي يتوقع ترامب من صديقه نتنياهو أن يساعده في إتمامها، ما يعني هذه المرة عدم قدرة نتنياهو على التملص من استحقاق تصريحاته التي أدلى بها لبعض ذوي الأسرى أن الظروف قد نضجت لإتمام الصفقة، خصوصاً أنه يثق بقدرة ترامب على توفير مظلة حماية له أمام القضاء الإسرائيلي والعالمي.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة