قبل 5 شهور
محمد جرادات
74 قراءة

الحرب الأخلاقية بين محمد وإيميليا.. هل انتصرت غزة؟

الاشراق | متابعة.
لم يكن في ميدان الأسر تضارب أخلاقيّ بين محمد نزال وإيميليا دانيال، كانا طفلين وما يزالان، تجمعهما البراءة الإنسانية. نعم، محمد يعيش في وطنه ويلاطم بكفه مخرز المحتل دفاعاً عن حقه المقدس، هذه الكف التي كسرها السجان الإسرائيلي، وتركها طوال ليالي حرب الطوفان، ومحمد نزيل زنزانة هذا الإسرائيلي يتألم طوال الوقت، ولكن ليس ثمة قَسَمٍ طبيّ تتنفس أصداؤه خلف جدران الأسر الإسرائيلي.

وحدها إيميليا من دون محمد، كانت هناك تحت كثبان رمال غزة المشتعلة بالبارود، تحت حمم الطائرات والدبابات والمدفعية الإسرائيلية، وحدها كانت تلعب تحت الأرض، في أكثر الأماكن أماناً، تلاعبها أذرع قوية حانية، تذوب قوتها أمام ضحكة من إيميليا، وهي كالفراشة تطير في مدينة الأنفاق، أو هو عالم آخر مختلف كلياً، لم تعهده إيميليا ولا والدتها، فهو بين يديّ من كانت تحسبه أغلظ الناس خلقاً، فإذا به يكلمها بلغتها التي تعلّمها في أسر عقود اختطفها الإسرائيلي من عمره، ولكنه هنا أمام استحقاق الطفولة.

طفولة لا ثأر فيها ولا حقد ولا انتقام، لأنها الحياة التي على يحيى السنوار أن يحفظها، في مواجهة طيار أو عشرات الطيارين الإسرائيليين، وهم يتنافسون عبر أحدث أجهزة الرصد لالتقاط إشارة عن إيميليا لا لينقذوها، ولكن لتفعيل بروتوكول هانيبال بقصفها مع آسريها، حتى لو كانت ابنة بضعة أعوام، لماذا؟ حتى لا يتنفس محمد نزال خارج زنزانته، وحتى لا يتمكن من تضميد كسور كفيه. 

هي الحرب إذن، ولكنها حرب أخلاقية، تتصل بأصل الحكاية، في التكوين الإسرائيلي: "اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا"، فيما حكاية محمد ويحيى ونفوذ وعطاف بدأت منذ فعلها بعض المسلمين فبالغوا في القتل في إحدى المعارك، يقول الأسود بن سريع: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه...حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" ما بالُ قوم جاوزهم القتلُ اليوم حتى قتلوا الذريَّة؟!" فقال رجلٌ: يا رسولَ الله: إنما هم أولادُ المشركين! فقال: ألا إنَّ خيارَكم أبناء المشركين، ثم قال: ألا لا تقتلوا ذريةً، ألا لا تقتلوا ذريةً".

والأخلاق منبعها الفكر والعقائد، وهي في "طوفان الأقصى" منذ السابع من أكتوبر، دخلت تحت كشّاف يشتعل بالطاقة الشمسية، فلا تطفئ نوره ظلمات العدسات المزيفة، ولا ألاعيب الإعلام الأميركي والغربي، الذي لا يعمل إلا بالوقود الأحفوري المفصل على مقاس أطماع النخب السياسية المضبوعة بوهج اللوبي اليهودي بمفاعيله الإعلامية والاقتصادية، تحت هذا الكشّاف ظهر الفلسطيني المقاوم صاحب رسالة إنسانية حتى وهو يأسر إيميليا اضطرارياً، فقد ضمن لها أن تعيش في غزة وهي تشعر أنها ملكة، بحسب تعبير والدتها.

تركت والدة إيميليا بصمات شعورها الإنساني، بصيغة رسالة شكر لجنرالات الأسر، أو لعلهم أهل الضيافة في غزة، بما يشبه الوصية، وهي تودع مضيفيها مع طفلتها، وهو ما لم تحظ به الطفلة المقدسية نفوذ حماد، التي اختطفت فجأة من حافلة دفعة التبادل الثالثة، وتردد أنها في المستشفى، ليتبين لاحقاً أن وضعها الصحي قد ساء بعد تعرضها لوجبة ضرب وداعية، ما استدعى إخفاءها وتأجيلها إلى الدفعة الرابعة، وهي لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، وصدر بحقها حكم تعسفي بالسجن لمدة تفوق كامل ما قضته من عمرها.

حرب المشافي التي خاضتها "دولة الديمقراطية الأولى في الشرق الأوسط"، وقد صبت جام جنونها الوحشي على مشافي غزة، من المعمداني حتى الإندونيسي والشفاء، وهي تنقلها اليوم إلى جنين فتزج بأكثر من مئة وثلاثين آلية مدرعة مع ستة بلدوزرات، لتطويق مشافيها الثلاثة؛ ابن سينا والرازي وخليل السليمان، فلا يجد جرحى الاشتباكات ملاذاً لتضميد جراحهم، إنه ابن جنين محمد نزال وعظام كفيه المكسورة، هناك حيث يتواصل مسلسل تعذيب الأسرى بصمت يشبه الموت، رغم الضجة الإعلامية في متابعة عمليات التبادل المتواصلة، وكأن هذا التعذيب السادي للأسرى حفلة شواء وداعية ينتشي فيها السجان على لظى حمرة جمراتها، بأوامر "صبي التيك توك" إيتمار بن غفير، فيتلذذ بها في غمر شهواته الحيوانية.

والحيوان الأسير في غزة، كان له نصيب في الحرمة بصفته مخلوقاً، وقد خرج من تحت لظى جحيم القصف الإسرائيلي كما دخل، وهو في حمى أنفاق المقاومة، إنه كلب تلك الصبية الإسرائيلية، وقد ظهر في حضنها لحظة تسليمها للصليب الأحمر، من قبل السرايا والقسام، تبدو عليه علامات الاستقرار، فلا إيميليا خرجت بصدمة نفسية، كما كانت تفترض والدتها، ولا حتى ذلك الكلب الأسير، فما تملكه فزع وقد استقر في أحضان المقاومة، وهم جميعاً تحت جحيم الحرب الإسرائيلية.

فوز غزة بالحرب الأخلاقية، أفقد الكيان الإسرائيلي التعاطف الأولي الذي حظي به بعد السابع من أكتوبر، ليس في المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم، بحسب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، مايك وارنر، وبحسب مصادر متضافرة، فإن التعاطف مع غزة تصاعد من 69% إلى 95%، ولكن ذلك لم يردع الإسرائيلي عن تفقد ذاته المتوحشة، وهو يجد الفلسطيني لأول مرة في تاريخ الصراع، يلاطم فولاذ المحتل بقبضة حديدية أفقدته توازنه.

ترى كم يحتاج الإسرائيلي من الضحايا، كي يطوي سجل هزيمته في "طوفان الأقصى"، وهو الذي بدأ يزحف على وجهه، فلا يجد غير الأسرى في زنازين عنجهيته، ميداناً للتعبير عن ذاته السادية، ولكن إيميليا وضعت يدها في لحظة شفافة، على جرح الإنسانية المعذبة في غزة وجنين، وهي تشير إلى تمتع الآسرين بما سمّته "إنسانية غير طبيعية" وهي معذورة في هذا الوصف، فالإنسانية والطبيعة توأمان، فيما منظومة الكيان الثقافية والسياسية لا يُرى فيها أدنى سلوك إنساني. 

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP