حزام النار في مقاربة حزب الله
تشتعل مستوطنات شمال الكيان الإسرائيلي، ومعسكراته وأطراف مدنه من "كريات شمونة"، حتى "نهاريا" وصفد وعكا، بنيران الغضب اللبناني، ثأراً للدماء النازفة في غزة، كما في الضفة وجنوب لبنان، وتنتشر العشرات من فرق الإطفاء، مدعومة بكتائب من "جيش" الاحتلال، ولا يتوقف مستشفى صفد عن استقبال الإصابات بين الجنود والمستوطنين.
كيف حصل ذلك؟ وما المقاربة التي نجح فيها حزب الله، وهو يزحف بحزام ناره بثبات تدريجي من شبعا والمطلة حتى تخوم طبريا وحيفا؟
وكان الشمال الفلسطيني دخل منذ الثامن من أكتوبر، في آتون مواجهة بين مقاربتين؛ تلتزمان بقواعد اشتباك حذرة، على وقع الحرب الدموية التي شنها كيان الاحتلال ضد غزة، مواجهة تجاوز فيها الكيان الإسرائيلي هذه القواعد، مرات عديدة، بتصعيد اغتيالاته في العمق اللبناني، فيما حافظ حزب الله ومعه قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، على وتيرة تصعيد متدحرجة بثبات، يمكن رؤيتها في ثلاثة مسارات؛ نوع السلاح ومدى الإطلاق وكثافة النيران، كالآتي:
المسار الأول؛ تمثل في استخدام أنواع معينة من الصواريخ والمسيرات، ظلت تتطور تباعاً، بحسب متطلبات الميدان، ولكن وفق استراتيجية قتالية، لم تخضع لقفزات نوعية تناسب ما يطلبه المشاهدون، أو ما يتوقعه الراصدون.
وكان حزب الله استهل هجماته بقذائف الهاون والكاتيوشا والصواريخ المضادة للدروع، حتى أدخل صواريخ ثقيلة مثل فلق، وصواريخ الماس المصحوبة بكاميرا رأسية، وصواريخ بركان هائلة التفجير، وآخرها صواريخ عماد مغنية التي دمرت قواعد عسكرية كبيرة.
بموازاة تطوير استخدام الطائرات المسيرة، من المتخصصة في نقل المعلومات والتصوير، إلى المسيرات الانتحارية، أو ما يطلق عليه حزب الله بالمسيرات الإشغالية والانقضاضية، حتى تلك القادرة على إفراغ صواريخها في قلب الثكنات العسكرية الإسرائيلية، وحتى الأهداف المحددة، مثل تجمعات الجنود أو الآليات والدبابات، والعودة بعد تصوير الأهداف المستهدفة، وشمل هذا التصعيد استخدام منظومة طوفان الإيرانية، وهي النسخة العكسية لمنظومة تاو الأميركية، مع استعمال حشوات فراغية.
المسار الثاني؛ خضع ميدان الإطلاق في شمال فلسطين، لدحرجة جغرافية في العمق الإسرائيلي تباعاً، فكان استهداف جبل الجرمق، وتعلوه قاعدة ميرون العسكرية، بما تضمه من قاعدة استراتيجية للتجسس والرصد، على مستوى الساحل برمته، تطوراً نوعياً كبيراً، جاء بعد اغتيال القائد صالح العاروري، في بداية هذا العام، وتبعد هذه القاعدة نحو 10 كم، عن الحدود اللبنانية.
أخذت صليات حزب الله تتمدد في الجوف الإسرائيلي، عبر استراتيجية التنسيق مع بقية الجبهات، وضمن عملية زحف وقضم لقلب العدو، أخذت طابع الصعق الكهربائي المؤدي إلى الشلل، وهو صعق أفقد التفوّق الإسرائيلي الجوي، ميزته الميدانية، بما أعطى حزب الله القدرة على فرض طوق ناري يتسع تباعاً في شمال الكيان، بما ظهر كأنه أمر واقع لا حيلة لدفعه، حتى صار استهداف "نهاريا" وصفد وعكا أمراً معتاداً ضمن عمق نحو 30 كم، خاصة مع توالي قصف مقر قيادة لواء "غولاني" ومقر وحدة "إيغوز 621"، في ثكنة "شراغا" شمال عكا.
المسار الثالث؛ تصاعدت كثافة نيران حزب الله، ضمن آلية تعميق حزام النار، بشكل مطرد، إذ بلغ مجموعها بحسب المعطى الإسرائيلي؛ نحو 4800 قذيفة وصاروخ وطائرة مسيرة، وجاءت في الأشهر الخمسة الماضية ضمن وتيرة متسارعة؛ من 334 صاروخاً في شهر كانون الثاني/يناير، إلى 534 في شهر شباط/فبراير، و746 في شهر آذار/مارس، و744 في شهر نيسان/ أبريل، حتى 1000 في شهر أيار/ مايو، فيما دخل شهر الصيف اللاهب حزيران/ يونيو، لتتفاعل قوة حزب الله النارية أضعافاً مضاعفة في أيامه الأولى، تأثراً بالحرّ الشديد، الذي أشعل مئات الحرائق، حول "كريات شمونة" وصفد، حتى صار لكل قذيفة تطلقها القبة الحديدية الإسرائيلية، أثر عكسي يتسبب بحرائق وأزمات أمنية مضاعفة.
جاءت المقاربة الإسرائيلية في مواجهة نار حزب الله، ضمن مسارات مغلقة متأرجحة، رغم التفوق الناري التقليدي، بشكل لا مقارنة فيه، رغم نجاح حزب الله في كبح جماح القوة الإسرائيلية النارية، تبعاً لما أظهره بداية من التزام بقواعد اشتباك منضبطة. وكان أبرز مسارات المقاربة الإسرائيلية:
أولاً؛ نجاح عدة اغتيالات في قلب بيروت، بعد شهرين من المواجهة، واستهداف عشرات الكوادر من نخبة حزب الله، لا سيما في قلب الميدان، في ظل تعتيمه التام على خسائره البشرية، بما أظهره أمام الجمهور وكأنه يقتل قادة المقاومة وشبابها، في ظل عجز المقاومة عن المسّ بجنوده وضباطه.
كان لسياسة الاغتيالات الإسرائيلية في لبنان مردود عكسي على المدى البعيد، في ظل احتدام المواجهة كل هذه الشهور، خاصة أن نجاح الاغتيالات لا يتوفر كل يوم، بينما وتيرة ضربات حزب الله ظلت في تصاعد، بما جعل المشهد يميل تباعاً لصالح مقاربة حزب الله.
ساعد في ذلك افتضاح سياسة الرقيب العسكري الإسرائيلي في التكتم على الخسائر البشرية، وخير مثال ما حصل في أكبر هجوم طال قواعد صفد العسكرية، عندما كشف رئيس بلديتها عن مقتل وجرح سبعة جنود، وهو ما تكرر في العرامشة، و"مرغليوت"، حتى أخذ إعلام الاحتلال يتحدث عن عشرات القتلى ومئات الإصابات، في ظل نجاح حزب الله في توثيق عملياته، خاصة تلك التي استهدفت تجمعات الجنود بشكل مباشر، بما تجاوز 60 توثيقاً متحركاً، وقد ظهرت فيها دقة الاستهداف لجنود يتموضعون قبالة التسديد الناري، هذا غير مئات الهجمات التي تجاوزت 2000 هجوم.
ثانياً؛ ضرب البنية التحتية والمراكز المدنية في القرى اللبنانية المحاذية للشريط الحدودي، مثل عيتا الشعب وميس الجبل ومارون الراس، وأحياناً في بنت جبيل وبعلبك، وهو ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين بالعشرات.
ثالثاً؛ قصف العمق السوري، وخاصة دمشق وحلب، مع استهداف قوات حزب الله، والمستشارين الإيرانيين، وهو ما أدى إلى رد إيراني واسع في منتصف نيسان/ إبريل، كبح الاندفاعة الإسرائيلية ضد إيران، بما حدّ من هامش الانتقام الإسرائيلي.
رابعاً؛ الضغط الدولي، عبر النفوذ الأميركي-الفرنسي -الغربي في لبنان، وهو ما فشل تماماً، أمام إصرار حزب الله على ربط المواجهة بوقف الحرب على غزة.
خامساً؛ التهديد بالحرب وإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وهو ما تكرر على لسان كل القادة السياسيين والعسكريين عشرات المرات، ففي الوقت الذي أعلن وزير الحرب غالانت في بداية هذا العام عن الانتقال من الدفاع إلى الهجوم مع لبنان، نجد رئيس أركانه هليفي يتحدث مع نهاية الشهر الثامن للمواجهة، عن قرب الوصول إلى نقطة التحوّل مع لبنان، بما يضع كل التهديدات السابقة في مكب الاستهلاك.
حصدت مقاربة حزب الله نتائج متضافرة بالنقاط، بما عمّق حزاماً نارياً، يكاد يفصل شمال الكيان عن وسطه، خاصة مع تعزيز موجات النزوح لما يزيد عن مئتي ألف إسرائيلي، باتجاه الاستقرار في الوسط، مع اتساع نطاق صفارات الإنذار الإسرائيلية وهي تقرع فوق رؤوس عشرات الآلاف في تخوم حيفا وطبريا، بما أضاف كمّاً بشرياً هائلاً مضطراً للاختباء في الملاجئ.
يجد الكيان الإسرائيلي نفسه اليوم، في ظل مشهد ناري يكاد يطبق على أنفاسه تدريجياً، في ظل انقسام داخلي يتعمق ويحول دون القدرة السياسية على النزول عن شجرة الأهداف المعلنة للحرب على غزة، ناهيك بتحقيق الحلم بإعادة قوات حزب الله خلف نهر الليطاني، بما يبشّر بحصاد صيفي يكاد يتجرّعه كل إسرائيلي بما يتجاوز العلقم.
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكور