رمزية الصرخة في الميدان من "ولّعت" حتى "افقع"
الاشراق | متابعة.
صرخ فارس الكتيبة في جنين، يأمر زميله القابض على جمرة الكمين في حيّ الجابريات؛ "افقع افقع"، تريّث قليلاً ثم سدّد مرة أو مرتين، فتطايرت آليات "جيش" الاحتلال في الهواء، ومعها كلّ ما حوته من ضباط وجنود، لكنْ ثمة أمر واحد تشكّل واستقرّ على وقع أشلاء القوة الإسرائيلية، وإن تطاير كغيره في الآفاق والأعماق، في صياغة قوة روحية نفسية بديلة، في جيل تتبلور ملامح شخصيته على وقع الطوفان، إنها حروف الصرخة؛ "افقع"، وهي تهوي في أفئدة المتوقّدين، عين على غزة الجريحة المتوثّبة، مبعث الطوفان، وأخرى صوب كلّ ميدان مقاتل، من جنين حتى الحديدة وبغداد وكرمان وعارورة وخربة سلم.
سجود ملحمي لتيسير أبو طعيمة قائد نخبة القسّام، بعد إصابته في خان يونس، وقع أرضاً وقد احتمى بالداخل، لكنه فجأة خرج زحفاً، نظر للطائرة المسيّرة التي قصفته ربما، وأطلق صرخات التكبير والتحدّي في وجه قاتله الذي نشر هذا المقطع بغباء، ظل تيسير يصرخ حتى أيقن بنزيف الروح الأخير، فانحنى ساجداً، وظلت صرخاته التي لم تسمع جيداً، يتردّد صداها حتى الآن، وكلّ ناظر للمقطع يتخيّل فحواها وفق تكوينه الذاتي، ولكن في جوهرها صدحت مع التكبير، صرخة غضب في وجه الظالمين، كما كلّ المتخاذلين.
"لعيون أبو حسين فرحات"؛ إنها رومانسية العاشق، وهو يسدّد الرمي؛ اللهم سدّد اللهم سدّد، وهو يبثّ هدايا الميدان لشهيد القسّام في حيّ الشجاعية وسام فرحات، صرخات ورد جورية، وعندما تهاوت جرافات الـD9 تباعاً، كانت أيادي الرجولة في غزة تستمد الدفء من فولاذ الجرافات المشتعل، ويصرخ قائلها، "بيفكّروا البلد ما فيها رجال"؟!
كانت المقاومة جدوى مستمرة، شعار الشهيد المثقّف باسل الأعرج، عندما قاتل مشتبكاً في رام الله منذ سنوات وهو صاحب الكتب ورجل الجوالة المبتسم، وهي اليوم شعار الصرخة الغزاوية، وحائط خربشات المقاتلين على لوحة رسمتها قذائف الهاون، وهي تدكّ مرابض الغزو المستحدث على مسافة أمتار رملية، ترى ماذا أراد رجال المدفعية أن يقولوا وهم يفترشون صرخة باسل هذه وهم في أتون الحرب؟!
إنها رسالة غزة وهي تحت النار الإسرائيلية الأميركية، وقد تحوّلت جدرانها إلى أطلال، وطفولتها إلى مقابر على قوارع الطرق، كيف تحوّلت مدفعية الهاون البسيطة، في عمق غزة إلى أداة فعل لها جدوى مستمر، وقد ألغت القبة الحديدية العملاقة في قواعد الاشتباك المستحدثة.
ولحظة صرخ فارس السرايا في غزة؛ "ولّعت ولّعت"، بعد أن أحرق دبابة الميركافا، وهو يقفز في الهواء منتشياً، كان ببهجة روحه ينسج خيوط الفعل في طولكرم والقدس والجرمق وحيفا حتى إيلات، ويبعث أمل النصر في قلوب الآلاف الذين فقدوا الحبيب والقريب، بما يوقد ذاكرتنا عن شعلة الولّاعة اليمنية، حينما أضحت شعاراً في البأس اليماني، وأبطال أنصار الله يحرقون دبابات العدوان بقدحة الولاعة بعد سيطرتهم على أرتالها.
ولأنها زينب الحوراء؛ كان اسمها صرخة الهجوم في رويسة العاصي، أول أمس، وهي تدمّر الميركافا، فخر الصناعة الإسرائيلية، زينب الحوراء؛ عنوان مكثّف لصراع الحق مع الباطل، الممتد أبد التاريخ، ليستقرّ هنا بين جبلين؛ جبل عامل الشامخ في أصالته، وجبل ميرون المزوّر في اسمه ورسمه، فكانت الصرخة الزينبية إشراقة غضب من محيّاها، حمم الصبر وحرارة الجمر، المتوقّد منذ الطفّ حتى صفد، صرخة في قصة، ينبعث من لظاها نداء زينب في وجه يزيد؛ مَهْلاً مَهْلاً لَا تَطِشْ جَهْلاً!
أَنَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ: (ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)، فكان عذاب بعض الثأر للشيخ صالح ورفاقه المظلومين.
تأتي هذه الصرخات في ميدان الطوفان، بعيداً عن حبائل اللغة وصنعتها، لتثمر في مشاعر شعوبنا المغلوبة، توهّجاً ينهض بها من كبوتها، ويدفعها نحو الخيار الأصيل، في وقت يطلق فيه جنود "الجيش" الإسرائيلي صرخات الهلع والرعب، في كل مواجهة على ركام غزة المنكوبة، ليموت أحد قادة لواء جفعاتي بالسكتة القلبية من هول ما رأى، وليتمزّق المطرب والممثل الإسرائيلي الشهير؛ عيدان عميدي، في ساحة القتال، بعد أن تفاخر بتفجير مدرسة في الشجاعية، وقد استعدّ لترك الغناء والتمثيل ليقاتل حماس وحزب الله، بحسب قوله، وهو بطل مسلسل "فوضى" الإسرائيلي، الذي يظهر البطولات الزائفة للقوات الخاصة الإسرائيلية في الضفة الغربية.
وفيما كان المتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي؛ دانيال هاجاري، يعلن متفاخراً أنه تمّ تفكيك كتيبة جباليا، كانت كتيبة جنين المشتبكة منذ سنتين، في مواجهة عشرين اجتياحاً إسرائيلياً، منذ السابع من أكتوبر، وعشرات الاجتياحات منذ تأسست قبل عامين، حتـى (فقع) رتل لهذا "الجيش"، بعد أيام من إعلان ضابط إسرائيلي عبر سماعة مسجد مخيم جنين الكبير أنّ (القصة قد انتهت)، فمن يصدّق هذا الهاجاري الكاذب أنه نجح بتفكيك كتيبة جباليا المشهورة بقوة بأسها وعمق أنفاقها وبراعة تدريباتها، على امتداد سنوات خلت منذ تحرّرت غزة، و"جيشه" عاجز في مواجهة كتيبة جنين على حداثة عودها، وفي ظل وجودها تحت احتلال إسرائيلي مباشر؟!
بين نهاية القصة في جنين، بحسب المخيّلة الإسرائيلية، وبين صرخة "افقع" في حيّ الجابريات على أطراف المخيم، مفرق طريق في عالم النفس، أو لعله عشق هؤلاء الفتية العجيب لكتيبتهم المستهدفة بكل الطعنات الغادرة من الأمام والخلف، عشق يتشكّل في مدّ الطوفان كما جزْره، يتدفّق في روح المستضعفين، بما يتجاوز المادة التعبوية، لما هو اشتعال الكلمات في ميدان ملتحم بكلّ منابع الوعي والضوء.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة