قبل 6 شهور
محمد جرادات
98 قراءة

الرمز الفذ في العقل الإيراني

بكى الشعب الإيراني رحيل قادته الشهداء؛ الرئيس ووزير خارجيته والمرافقين، بحرقة تلفت النظر، والبكاء رمز تعبيري لما يجيش في أعماق النفس.

وقد اعتادته إيران عبر تاريخها الطويل في استشعار دائم لمظلومية آل البيت النبوي في كل مناسباتها الدينية والاجتماعية، بما وسم العقل الإيراني برموز تعبيرية دلالتها الحزن، واللون الأحمر، ووردة الشهيد، ودمعة الفقير.

وعندما تجاوزت ثورة إيران الإسلامية عتبة نضجها، تكثفت كل الرمزيات المعنوية في رحلة البكاء الحسيني على مائدة مفجر الثورة الإمام الخميني ورحيله بعد عقد من انبلاج فجرها المبارك، فكانت بكائية الثورة عالمية بامتياز، ليظهر المعنى في تشكله الرمزي الكامل في القائد الفذ قاسم سليماني، وقد اكتمل نضج الثورة في 40 ربيعاً من عمرها، ولكنه ربيع الشهداء، وبستان الرياحين، وعبق النسرين، وقد فاح أريجه بعدما ارتوى من نبع التسنيم الممتد دفقه من عمق التاريخ، وصلابة الدين، وهيبة الرمز.

ميزة العقل الجمعي الإيراني، في محطته الإسلامية التاريخية، كما في عصر الثورة المعاصرة، تشكلت عبر عصارة تاريخية جمعت بين العابد في المحراب والثائر في الميدان والمبدع العالم والأديب والفنان والمهندس والطبيب أو هي صوفية العاشق علي بن أبي طالب ومظلومية ابنه الحسين وصرخة الرسالة الزينبية في صحراء الطف، مع الانتماء الديني في زهد أبي ذر الغفاري وجهاد الأشتر النخعي.

وكان التراث الفارسي قد حفل بهيبة إيوان كسرى، فأنتج منظومة إدارية عريقة انساحت في الإدارة العربية الإسلامية، بما فيها من مفاتيح الرمز، وهو هنا شخص القائد الفذ، وإن وازنت بين الفرد والجماعة في إدارة الدولة، لكن رهبة القائد جسدت حضوره حتى في حال غيابه، وهذا هو التفسير الأقرب إلى الرمز الموحى خارج نطاق المكان والزمان، لما هو الانغماس في أعماق النفس بكل تجليات الطاعة وسلاسة الانقياد.

شكّل الرمز الفذ قلب الإدارة الفارسية، وقد هذبها الترشيد الإسلامي، لتمثل إضافة نوعية في إدارة الحكم عبر العالم، وخصوصاً مع الخلافة الإسلامية وسلطنتها على اختلاف أطيافها، وإن فصل بين رمزية القائد واستبداد الحاكم شعرة فاصلة ظل الوازن فيها قيم الورع والتقوى وقوانين ناظمة من عمق تراث الري وفارس.

كان لرمزية الإمام الحسين بن علي عليهما السلام نبض الروح الساكن في الوعي الشعبي، وخصوصاً الشيعي والصوفي، كما السني المجرد من تأثيرات السلفية الوهابية، وهي رمزية جمعت بين مزايا تكرست في المشهد الإيراني الراهن منذ الخميني وسليماني حتى هذا التشييع المليوني لرئيسي، وهي مزايا متصلة بالتراث الإيراني المتفاعل مع تحديات العصر الراهن، وأبرزها:

1- الأصالة التاريخية في الانتماء الممتد عبر تاريخ بعيد، ولكنه انتماء غير دخيل بحكم القومية والمعاصرة.

2- الوجدانية الدينية في طهر الجوهر البعيد عن المصلحة الدنيوية، لما هو دين الله الخاتم بمحمد بن عبد الله عليه وآله الصلاة والسلام.

3- العاطفة الإنسانية، وهي تتوهج بمشاعر جيّاشة صادقة، عبر بكائيات تتجدد سنوياً مع ذكرى استشهاد آل البيت في كربلاء.

4- الثورة العابرة للحدود، فهي مع الفلسطيني فتحي الشقاقي ومركزية فلسطين في المشروع الإسلامي، كما هي مع العراقي أبي مهدي المهندس، وحتى مع المستضعف البوسني في قلب الظلم الأوروبي.

5- المظلومية الإسلامية النابعة من يقين حق آل البيت، منذ عليّ حتى المهدي الذي يرونه المغيّب، وهي مظلومية متجددة في حق المسلمين والشرق عامة، في حياة كريمة دون خضوع للطمع الغربي الأميركي.

يبدع الإيرانيون في استلهام المعنى الرمزي في فنون الرسم والشعر والتمثيل المسرحي منذ فجر التاريخ، وهي في جوهرها الإيحائي دون المباشر، بما يشير إلى ملمح الرمزية الشعبية في الوجدان الإيراني.

لهذا، فجنائزهم لها طابع مختلف عن بقية أجناس العالم، وحتى عن معظم المسلمين. وعندما انتصرت الثورة، ووضعت دستوراً إسلامياً، في تطبيق الشريعة، بكل أوامر الوجوب والتحريم، فكان وجوب الحجاب للمرأة وواجبات أخرى تتصل بالحشمة والعفة والحياء، وهي مناقضة للوهلة الأولى مع الفن.

رمزية المعنى الفني الإيراني أدهشت العالم، وما زالت، لدولة تحيط المرأة، كما الرجل، بجملة من التعليمات التي تحد من الظهور الجمالي والملامسة وغير ذلك من الأجواء البدنية مما جرت العادة على استدعائها، وفق النموذج الحضاري الغربي المادي القائم على استثارة الغرائز، فإذا بالنموذج الإيراني الملتزم بقيم الإسلام الجمالية في قلب المعنى يحظى بإبداع فني جعله يحصد جوائز عالمية بارزة في مواجهة الفن المادي الهابط.

زحْف الطوفان البشري الذي خرج في مدينة قم الإيرانية يتصل مباشرة بهذا التكوين الفني النفسي، ويحمل من الدلالات المكثفة وهي تربط بين شتى المعاني المحركة للوجدان الروحي في إيران، حيث مقام السيدة المعصومة، فاطمة بنت الإمام الكاظم، وقم هي عاصمة الحوزة الدينية، تخرج بالملايين غداة وصول الجثامين الطاهرة للرئيس الذي كان واحداً من تلاميذها، بما يشير إلى عمق التداخل بين الفني والسياسي والديني في إيران، وهو انسياب المعنى وإشارة النور، بما يجهله ساسة الغرب ومفكروه وهم في غمرتهم يعمهون.

تتلقف إيران جثامين المشيعين من مدينة تبريز في أقصى شمال الغرب، مروراً بقم وطهران، حتى يوارى في الثرى في مسقط رأسه شرقاً في مدينة مشهد، حيث مقام الإمام الرضا، رمزية الدين والمذهب والتاريخ، مسافة تتجاوز 1500 كم، وهي أبعد بين مبعث النور المحمدي في مكة، وتجلياته في مقام حفيده الرضا، على مسافة 2000 كم بين مرابض الوعد الصادق، وختم قرار الرئيس تبعاً للمرشد، بمعاقبة "إسرائيل"، قصفاً في أوج غطرستها.

إنها خاتمة رحلة الرئيس إبراهيم رئيسي، في تباعد مسافات الوطن، الذي أخذه ليدشن مع الجارة أذربيجان سدّاً يضم أكبر مشروع للمياه في المناطق الحدودية، لينظم 2 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.

بيت الشهيد الرئيس الراحل ملمح رمزي آخر في حكاية إيران وقصتها الحصرية مع المعاني المنفصلة عن المادة. إنه بيت رئيس دولة موازنتها السنوية تتجاوز 500 مليار دولار؛ بيت بسيط متواضع يشهد على انتماء رئيسي إلى عالم الفقراء والمستضعفين، وانحيازه إلى مشروع الآخرة، كعالم دين ومكافح ثوري ورجل دولة يمثل برمزية مكانته الاستثنائية ما أبكى ملايين الإيرانيين وأخرجهم إلى الشوارع المكتظة يزحفون إلى الإمام الرضا من دون نظر إلى الوراء، إلا ما تمثله رمزية المقام في واقع هذا الزمان.


لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP